سلاح حزب الله ورزنامة إسرائيل

Loading

لم تكن الأيام القليلة الماضية عادية في الضاحية الجنوبية لبيروت. دقائق قليلة كانت كفيلة بقلب المشهد رأساً على عقب ، يوم الأحد الماضي، بعد أن استهدفت صواريخ إسرائيلية مبنى سكنياً في حارة حريك، في عملية اغتيال طالت القيادي في حزب الله هيثم الطبطبائي.

بدا موقع الضربة في المشاهد الأولى كأنّه خارج من حرب خاطفة: أعمدة دخان كثيفة، سيارات متفحّمة، شظايا متناثرة في الأزقّة الضيقة، وصافرات إسعاف تشقّ الصمت المذعور للسكان. وأسفرت الضربة عن مقتل الطبطبائي وأربعة عناصر من حزب الله، إضافة إلى إصابة 28 شخصاً.

هذا الاستهداف النوعي رفع منسوب القلق من احتمال اندلاع مواجهة واسعة بين حزب الله وإسرائيل، وزاد كثيراً من “حماوة” السجال الداخلي حول نزع سلاح الحزب وضرورة امتلاك الدولة دون سواها لقرار الحرب والسلم، في وقت أكد الجيش الإسرائيلي عبر منصّة “إكس” أنه “سيواصل العمل ضد محاولات حزب الله الإرهابي لإعادة الإعمار والتسلّح وسيعمل على إزالة أيّ تهديد على مواطني دولة إسرائيل”.

انقسام سياسي حاد

يقف المشهد اللبناني اليوم أمام مفترق حاد بين فريقين يمتلكان رؤيتين متناقضتين:

الأوّل يدعو إلى نزع السلاح، ويضم قوى سياسية وشخصيات سيادية تعتبر أن بقاء قرار الحرب خارج مؤسسات الدولة يشكّل خطراً وجودياً. ويرى هذا الفريق أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة تظهر أن السلاح خارج الشرعية يعرّض أي منطقة في لبنان للدمار، ويضع البلاد تحت رحمة قرار لا تملكه، ويعمّق عزلتها عربياً ودولياً، ويشلّ مسار بناء الدولة.

أما الفريق الثاني، فيضم حزب الله وحلفاؤه الذين يؤكدون أن التصعيد الإسرائيلي دليل إضافي على ضرورة التمسّك بالسلاح باعتباره “عنصر الردع الأهم”، ويرون أن الظروف الإقليمية لا تسمح بفتح نقاش حوله، وأن المطالبة بنزعه في هذا التوقيت تصبّ في خدمة “الاستراتيجية الإسرائيلية”.

ومع تطوّر الأحداث واغتيال الطبطبائي، صعّد حزب الله خطابه، إذ اعتبر رئيس المجلس التنفيذي في الحزب علي دعموش أن على الإسرائيليين “أن يبقوا قلقين لأنهم ارتكبوا خطأً كبيراً”.

في المقابل، تواصلت المواقف السياسية اللبنانية المنتقدة لسلاح الحزب. فالنائب نديم الجميّل، تساءل عبر منصة “إكس”: “كم مرّة بعد لازم تنقصف الضاحية وتخترب بيوت العالم، حتّى يفهموا إنه لا غطاء دولي وحماية للبنان من دون تسليم السلاح وتفكيك بنية حزب الله العسكريّة؟”.

ومن جهته، دعا رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، في بيان، رئيسي الجمهورية والحكومة إلى الدعوة لعقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء، بهدف تنفيذ قراري 5 و7 آب المتعلقين بنزع سلاح حزب الله.

كما أكد رئيس جهاز الإعلام في حزب القوات اللبنانية، شارل جبور لموقع “الحرة” أن موقف القوات اللبنانية “ثابت منذ 35 عاماً بضرورة نزع سلاح حزب الله، بوصفه سلاحاً خارج الشرعية ويمثّل انقلاباً على اتفاق الطائف، ويستدرج الحروب إلى لبنان”.

وفيما يتعلّق بانعكاس اغتيال الطبطبائي على مطالبات أطراف لبنانية عدة بنزع سلاح حزب الله، لا المحلّل السياسي جورج العاقوري لموقع “الحرة” علاقة بين الأمرين، قائلاً إن هذه المطالبات “مستمرة منذ الانقلاب على اتفاق الطائف في أوائل التسعينيات”، وبالتالي فهي ليست وليدة الأحداث الراهنة.

مأزق الردّ

وضع استهداف الضاحية حزب الله أمام معادلة شديدة التعقيد: الردّ قد يفتح أبواب حرب واسعة، والامتناع عنه يهدّد صورته أمام جمهوره ويزيد الضغوط الداخلية عليه.

ويرى الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد ناجي ملاعب في حديث لموقع “الحرة” أن “حزب الله لا يتجه إلى تنفيذ ردّ عسكري ضد إسرائيل حتى ولو كان يمتلك القدرة على ذلك، لأن الثمن سيكون باهظاً داخليّا: انفلات أمني، توتر مع الجيش اللبناني، واحتكاك مع قوى سياسية أخرى، بالإضافة إلى التململ داخل بيئته التي لم تعد تحتمل الانخراط في حروب جديدة”.

من جهته يعتبر جبور أن التجربة الميدانية الأخيرة كشفت سقوط كلّ نظريات حزب الله حول “توازن الردع” و”القوة” وشعار “أوهن من بيت العنكبوت”، ويضيف: ” حزب الله لم يعد يمتلك القدرة على الرد والمواجهة، وهو اليوم يحصي خسائره المتواصلة، ويُبقي لبنان ساحة مفتوحة للفوضى والموت والدمار، ويحمّل بيئته المزيد من المآسي، نتيجة تمسّكه بسلاح انتهت صلاحيته الإيرانية في لبنان”.

ويوافق العاقوري أصحاب الرأي القائل إن الوقائع الميدانية تؤكد محدودية قدرة الحزب على الرد على الضربات الإسرائيلية، قائلاً: “لو كانت لديه هذه القدرة، لكان استخدمها بالفعل. الحزب قد يمتلك أسلحة تشكّل خرقاً أو إزعاجاً لإسرائيل، لكنه لا يمتلك سلاحاً يمكّنه من شنّ هجوم مباشر وحقيقي عليها”.

وكان الجيش الإسرائيلي قد كشف أخيراً، في بيان عبر منصة “إكس”، أن رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال ايال زامير تفقّد منطقة خدمة الفرقة 210 على الحدود الشمالية، و”اطلع على الاستعدادات وأوعز بالحفاظ على الجاهزية العملياتية المتزايدة” في ضوء عملية القضاء على الطبطبائي.

مخاوف لبنانية داخلية

فيما يخصّ الحديث عن احتمال اندلاع “حرب أهلية” نتيجة مطالبة قوى سياسية بنزع سلاح الحزب وتعنّت الأخير، يرى جبور أن هذا الطرح في غير محلّه، “لأن الحرب الأهلية تنشأ عادة عن انقسام بين مجموعات طائفية، بينما الواقع اليوم هو مشروع انقلابي على الدولة”. وبرأيه، فإن الأخيرة “عندما تتخذ قرار نزع السلاح وبسط سيادتها، تصبح المواجهة بينها وبين الحزب”. لذلك يتساءل جبور: كيف يمكن أن تقع حرب أهلية والدولة تمارس حقّها في فرض سلطتها على أراضيها؟.

كذلك يشير العاقوري إلى أن أيّ حرب أهلية محتملة “لن تقع إلّا إذا قرّر حزب الله خوض مواجهة مع الدولة اللبنانية وجيشها، باعتباره الطرف الوحيد الذي يمتلك قدرة عسكرية فعلية. أما باقي القوى فموقفها معلن وواضح: دعم الدولة ومؤسساتها، كما أنها غير قادرة على مواجهة الحزب”.

ويرى أن المسألة ليست انقساماً داخلياً بقدر ما هي “خيار بين دولة تمتلك حصريّة السلاح وقرار الحرب والسلم، وبين شبه دولة تبقى عاجزة ومقيّدة”.

سيناريوهات المرحلة المقبلة

يرسم مراقبون ثلاثة مسارات محتملة أمام لبنان: تسوية داخلية – دولية تنهي ملف السلاح، أو تصعيد إسرائيلي متواصل بلا ردّ من حزب الله، أو حرب واسعة قد تندلع إذا قرّر حزب الله الرد على الضربات الإسرائيلية.

ويرى ملاعب أن التصريحات الأخيرة الصادرة عن مسؤولي حزب الله، ولا سيما ما قاله نائب رئيس المكتب السياسي في الحزب محمود قماطي عن أن الحزب “يقف خلف الدولة اللبنانية” مع تأكيده أن “كلّ الخيارات مفتوحة” وأن “تسليم السلاح غير وارد”، تعكس تحوّلاً تدريجياً في خطاب الحزب نحو التموضع خلف الدولة، ولو على مستوى الشكل، كما يرى.

ويشير ملاعب إلى أن “الجيش يمتلك مهلة حتى نهاية العام لإنهاء خطة حصر السلاح جنوب الليطاني، على أن يعمل بعد ذلك على احتوائه في سائر أنحاء البلاد، وهذا يعني منع استخدامه ونقله”، مشدداً على أن دمج هذا السلاح في مؤسسات الدولة هو “المخرج الأقل صداماً والأكثر قابليّة للتطبيق”.

أما العاقوري فيؤكد أن المشكلة اليوم ليست سيناريوهات نظرية، بل خيارات واقعية أمام حزب الله، لا تتعدّى “تسليم السلاح للدولة اللبنانية وقطع الطريق على الضربات الإسرائيلية، أو الاستمرار في التعنّت، ما يتيح لإسرائيل مواصلة استهداف كوادر الحزب وبناه العسكرية، ويزيد احتمالات انزلاق لبنان نحو حرب قد تكون أشدّ خطورة من حرب سبتمبر 2024”.

ومن جهته يرى جبور أن الطريق الوحيد لوقف الضربات الإسرائيلية هو نزع سلاح حزب الله، وأن “هذا الملف يخصّ الدولة اللبنانية أولاً وأخيراً، قبل أن يكون شأناً إسرائيلياً أو أميركياً أو مرتبطاً بأيّ جهة أخرى”.