![]()
على قاعدة “قطع الأرزاق من قطع الأعناق” يتعامل “حزب الله” اللبناني مع المطالب الأميركية للدولة اللبنانية بوضع حدّ للتفلّت المالي الذي يسمح له بإيجاد ثغرات للتمويل والتسليح. يضع الحزب مؤسسة “القرض الحسن”، وهي بمثابة نظام مصرفي خاص به، على سوية واحدة مع السلاح. بعض المصادر التي تحدثت إليها “الحرة”، تشير إلى استشراس كبير لدى الحزب في الدفاع عن القرض الحسن، يفوق استشراسه في الدفاع عن السلاح. وقد هاجم النائب في كتلة الحزب البرلمانية رائد برو، في احتفال تأبيني، زيارة وفد الخزانة الأميركية الأخير إلى لبنان ولقائه مسؤولين لبنانيين، معتبراً أن هذه الزيارة “تهدف لوضع شروط على اللبنانيين تحت مبررات واهية، وتحديدًا حصار مؤسسة القرض الحسن التي نعتبرها متنفساً للناس والفقراء”. ثم تساءل نائب الحزب: “لماذا توجيه السهام نحو هذه المؤسسة التي تقدم الخدمة لجميع المواطنين اللبنانيين من دون تمييز؟”.
مع وجود عدد قليل من اللبنانيين من غير الشيعة، يتعامل مع “القرض الحسن” ويستفيد من القروض الميسرة التي يقدمها، إلا أن هذه المؤسسة تضطلع بتأمين شبكة مصرفية معقدة لأبناء الطائفة الشيعية، داخل أماكن نفوذ “حزب الله”، تشتمل على تقديم قروض وتسليفات وتوطين رواتب لموظفي مؤسسات الحزب، وإصدار بطاقات ائتمان خاصة تمكّن حامليها من سحب الأموال من صرافات آلية داخل فروعها.
ولا تخضع هذه المنظومة لرقابة الدولة اللبنانية، ولا لقانون النقد والتسليف، ولا سلطة لمصرف لبنان عليها. هي منظومة مقفلة بالكامل، كما يشرح لـ”الحرة” الخبير الاقتصادي اللبناني علي نور الدين.
نموذج القرض الحسن ليس جديداً، بل هو مستنسخ من تجارب غربية، مثل الـfinancial cooperative والـcredit unions، أي مؤسسات تمويلية ذات دور اجتماعي، وليس لها أهداف ربحية، ويكون دورها إعطاء قروض من دون فائدة وبرسوم رمزية. تأسس القرض الحسن قبل الإعلان عن “حزب الله” رسمياً، ثم قام الحزب بضمّه رسمياً إلى مؤسساته.
منظومة “حزب الله” المالية لا تقتصر على القرض الحسن، بل تتضمّن أيضاً شركة “يسر” للتمويل والاستثمار، الموضوعة على لوائح العقوبات الأميركية، والتي تتلقى الأموال من ادخارات ورؤوس أموال الحزبيين، فيما يقوم القرض الحسن بإعطاء القروض.
الجيش الإسرائيلي استهدف، خلال الحرب الأخيرة، الكثير من فروع القرض الحسن، ودمّر بعضها بشكل كامل. ومع ذلك، لا يبدو أن هذه الضربات أثّرت في عمليات المصرف، حتى أن مواطنين تحدثت معهم “الحرة”، كانوا قد أودعوا ذهباً (مجوهرات شخصية) في فروع المصرف، استطاعوا الحصول على مجوهراتهم كما هي من فروع يفترض أنها تعرّضت للدمار. ما حدث، أن الحزب كان يتوقع استهداف الفروع، وعلى الغالب نقل الذهب والأموال إلى أماكن آمنة، أو في بعض الحالات، الذهب كان موضوعاً في خزنات محصّنة، جرى انتشالها من الركام بعد القصف، كما حدث في حرب العام 2006، بحسب المصادر التي تحدثت إليها الحرة.
كلّ الضغط الذي مورس حتى الآن، إن كان عبر الضربات العسكرية لفروع القرض الحسن من قبل إسرائيل، أو الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة في هذا الملف عبر الحكومة اللبنانية، أو حتى تعاميم مصرف لبنان بمنع التعامل مع القرض الحسن، كلّها لم تؤثر على عمل المؤسسة، كما يقول نور الدين، لأن “القرض الحسن” ليس له أيّ اتصال بالمصارف، والنموذج المعتمد من قبل القرض الحسن، بالنسبة إلى “حزب الله”، غير مكشوف على أخطار كبيرة من ناحية الائتمان، لأن قروضه التي يعطيها للأفراد مكفولة بالذهب، بنسبة عالية. وإذا حصل لديهم قصور في النقد، يستطيعون تغطيتها عبر طرق تمويل أخرى.
استفاد “حزب الله” من ثغرات في القانون اللبناني، ما سمح له بتوسيع المؤسسة وعملها داخل الساحة اللبنانية. وبعد العام 2019 وبسبب الأزمة المالية وانهيار المصارف، بات هناك لبنانيون من غير الشيعة يلجأون للقرض الحسن للاقتراض، بعدما لم يعد بمقدور المصارف اللبنانية تقديم قروض.
الحزب يستخدم القرض الحسن كمصرف له، يقوم عبره بدفع الرواتب لعناصره والموظفين في مؤسساته، ويصدر عبره شيكات دفع التعويضات للمتضررين. وهذا الامر يصعب ضبطه كما يشير نور الدين، خصوصاً مع انهيار النظام المصرفي والثقة فيه. يتحدث نور الدين عن تقديرات للبنك الدولي بوجود “حركة عشرة مليارات دولار سنوياً نقدي (كاش) في لبنان”، معظم حركة الاستيراد والتصدير لا تتم عبر المصارف، ومن هذه المبالغ هناك حصة أكيدة لـ”حزب الله”. لهذا حمل الوفد الأميركي إلى لبنان مطالب وشروطاً صارمة، منها ضرورة اقفال جميع فروع القرض الحسن على الأراضي اللبنانية، ومراقبة شركات الصيرفة وتحويل الأموال، ومكافحة اقتصاد “الكاش”، من خلال تطبيق الإصلاحات التي يطلبها البنك الدولي.
ضبط السوق سيواجه تحديات ليس فقط من “حزب الله” بل ايضاً من “نخبة مصرفية، تقاوم هذه التغييرات الإصلاحية، بسبب لوبي مالي ومصرفي، يعيش على هذا “الاقتصاد الفلتان”، وهذا يستفيد منه “حزب الله”، كما يؤكد نور الدين، والدليل “أن المعطيات الأميركية تتحدث عن دخول حوالي مليار دولار إلى حزب الله منذ اتفاق وقف اطلاق النار، و”حزب الله” استطاع خلال هذه الفترة أن يستمر في دفع رواتب عناصره وتمويل مؤسساته، ودفع بعض التعويضات، وهذا يعني أن الحزب استطاع أن يخرق الحصار الاقتصادي المفروض عليه، وأن إجراءات التدقيق على المعابر، وإن كانت نجحت في الحد من وصول أموال من إيران، إلا أن الحزب استفاد من الفوضى المالية في البلد، واستطاع بطرقه الحصول على ما يحتاجه من أموال”.