![]()
في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يتوقف الكاتب والصحفي إبراهيم عيسى عند “التدين الشكلي” وفق تعبيره، متسائلا: كيف تحوّل الإيمان إلى مظاهر خارجية تُستخدم للحكم على الناس بدلا من جوهر السلوك والأخلاق؟
يرى عيسى أن الجماعات الإسلامية ركّزت لعقود على “الهدي الظاهر” – الحجاب، اللحية، الجلباب، واللغة النمطية – فحوّلت الدين إلى زيّ موحّد لا إلى قيمة روحية، وخلقت مجتمعا يقيس التقوى بالمظهر.
يناقش الكاتب المصري كيف أصبح استعراض الورع في أماكن العمل، والميكروفونات الصاخبة والرسائل الدينية المعلّبة جزءا من ثقافة دينية سطحية، تُخفي فسادا حقيقيا وتروّج لورع زائف.
النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة:
الجماعات الإسلامية انشغلت بدرجة كبيرة ومبالغ فيها بما يسمّى “الهدي الظاهر”، أي مظاهر التدين والالتزام الشكلي، إلى حد أنك تستطيع القول إن ما يهيمن اليوم على واقعنا هو التدين الشكلي، الذي أراه تعبيرا وتجسيدا حقيقيًا للنفاق الديني.
ما إن تمكنت الجماعات والحركات الإسلامية من التأثير في المجتمع، بدأت تعمل على إرباك العقل المسلم. فركزت على اختراع تعبيرات تُستخدم للتمييز والتفرقة. فبدأوا فمثلا يتحدثون عن أن هذه السيدة “متبرجة”، وصار هذا التعبير وسيلة للانتقاص والإهانة، يحمل إيحاء بأنها امرأة غير مؤمنة أو غير ملتزمة بالإسلام وشعائره.
عملوا على خلق تمييز يعتمد على الألفاظ والمظاهر. لماذا؟ لأن المطلوب كان تدينا شكليا. فقالوا: “هذه الأخت متبرجة”، وانتشر تعبير التبرج وأصبح يُستخدم في كل خطابات ومحاضرات وكتابات وخطب ومواعظ الجماعات الإسلامية لإدانة المرأة غير المحجبة أو التي لا ترتدي الحجاب أو النقاب. وفي الوقت نفسه، كان هذا الوصف وسيلة للانتقاص والإهانة.
بمعنى، أنكِ أنتِ لكي تكوني مسلمة، فلا بد أن يكون شكلك بالحجاب والنقاب. لماذا؟ لأنه معيار للإسلام، معيار شكلي. هذا لو افترضنا أن الإسلام يفترض شكلا أساسا. ورأيي أنني لا أعتبر الحجاب فريضة دينية ولا أعتبره ركنًا من أركان الإسلام على الإطلاق. وإنه، كما يذهب الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذنا ومفكرنا الإسلامي الكبير، فريضة فقهية. ولا توجد في القرآن أي آية، لا صراحة ولا تلميحًا، تُلزم بالحجاب بوصفه فريضة. أمّا ما يُروَّج عن أن النصوص تشير إلى عدم جواز إظهار المرأة إلا لوجهها وكفّيها وقدميها، فهو يعتمد على حديث ضعيف جدًا، كما يقرّ السلفيون أنفسهم.
نحن هنا أمام مسألة تتعلق بالشكل؛ والإسلامي شديد الحرص عليه، مولع به إلى حدّ الهوس. ومن ثمّ قرر أن الدين يصبح شكليًا، وأن معيار التدين ومحدداته يقومان على المظهر الخارجي.
فماذا يفعل؟ يجعل المرأة تتحجب، ويفضّل لو تنقبت. ويجعل الرجل يطيل لحيته ويرتدي جلبابًا – غالبا صناعة صينية – ومع ذلك يُعطونه قداسة كأنه قادم من الحرم أو من مكة، أي من عند النبي! بينما هو في الحقيقة مجرد منتج صيني. ثم يعمد إلى الترويج لأن الزي الأفغاني أو الباكستاني، من الجلابية القصيرة والبنطال أسفلها، هو الزي الشرعي الواجب.
لماذا يفعل ذلك؟ لأنه يريد الشكل، يريد المظهر، يريد علامة تشير إلى وجوده وقدرته على اختراق المجتمع. وبالفعل نجح في اختراقه، وأوهم الناس بأن الإسلام دين مظهر، وأن التدين مجرد هيئة. فصارت غير المحجبة تُصنّف بأنها متبرجة، والشاب ذو اللحية والجلابية شابا “ملتزما”. وهكذا وزّع قوالب وأنماطا، وفرض أشكالا محددة.
ولهذا تجدهم شديدي النمطية؛ السلفيون نمطيون. وكما عرضتُ في فيلم “مولانا”، كان شيوخ الجماعات الإسلامية يظهرون بالزي المتعارف عليه: الشال الأبيض، الجلابية البيضاء، اللحية الطويلة الممتدة حتى الصدر، والشارب المحلوق بالكامل. وحتى طريقة الكلام كانت نمطية هي الأخرى، بالفصحى وبنبرة معينة… وهكذا.
في النهاية، هم – أي التيارات السلفية – من صاغوا لأنفسهم هذا النمط. انظر إلى أي فرد ينتمي إلى الجماعات أو الحركات السلفية، ستجد أنهم يلتزمون بزيّ شبه موحّد يميز جماعتهم: الجلابية البيضاء القصيرة، والبنطال الأبيض، واللحية الكثيفة ذات المظهر غير المهذّب أحيانًا، وربما الكحل كذلك. أصبحوا نمطا وشكلا محددا، يقوم على التركيز على المظاهر الخارجية للتدين، وعلى تدين يعتمد أساسًا على الشكل دون الجوهر.
الورع الكاذب
هذا التدين الشكلي يظهر، مثلا، في أداء الصلاة داخل مقر العمل أثناء ساعات الدوام. تراه يتوضأ والماء يقطر من يديه، ثم يقول: “معلش، هاروح أصلي الظهر”، مع أن وقت الظهر ممتد، وربما لا ضرورة لأن تقام الصلاة الجماعية في ممرات المصالح الحكومية خلال وقت العمل. من قال إن الإسلام ألزم بذلك؟
لكن المسألة عنده مسألة مظهر؛ يريد أن يبدو متدينا، حتى لو بقي الأمر على مستوى الشكل فحسب. والغريب أن كثيرين ممن يحرصون على هذه المظاهر، ويؤدون صلاتهم جماعة، يعودون إلى مكاتبهم لتلقي رشى. هذا شكل من أشكال النفاق الديني.
جزء كبير من هذا النفاق الشكلي يرتبط بمحاولة تبرير الفساد الحقيقي. فترى بعض المرتشين هم الأكثر حديثًا عن الدين، والأكثر حرصًا على الحج والعمرة، وعلى متابعة الشيوخ وإلصاق صورهم على سياراتهم. إنه تدين قائم على المظهر وحده.
ثم يقول لك: “سيماهم في وجوههم”. يفسّر الآية على أن علامة الصلاة هي تلك البقعة الداكنة التي تظهر على جباه كثير من المصريين. لو كانت هي العلامة المقصودة، فكيف لا نراها عند شعوب مسلمة كإندونيسيا مثلًا – وهي أكبر دولة إسلامية من حيث العدد – أو في قلب مكة والمدينة؟ يبدو أنها مرتبطة بطبيعة البشرة أو أرضيات الصلاة أو البيئة المصرية لا أكثر. فهل يعني ذلك أن المليار مسلم الآخر لا يصلّون لأنهم لا يحملون هذه العلامة؟ بالطبع لا.
ومع ذلك يستمر الخطاب الشكل: “ده راجل طيب، بص علامة الصلاة في وشه”. وهذا لا علاقة له بجوهر التقوى.
انظر أيضا إلى الدراما العربية، وخصوصا المصرية. شاهد أي مسلسل يتناول بدايات الإسلام: سترى كيف يُصوَّر الكافر في هيئة فظة، بشعر منفوش وملامح خشنة، بينما يظهر المسلم بعد إسلامه بهيئة مهذّبة، بلحية مرتبة وثياب بيضاء. أصبح الشكل معيارا للخير والشر، مع أن الحقيقة لا علاقة لها بهذه الصورة النمطية، فكم من رجل بسيط الهيئة له مكانة كبيرة عند الله. لكنّ التنميط وصل إلى حد أن يُجعل الجمال الخارجي قرين الإيمان، والقبح قرين الكفر، وهذا اختزال لا معنى له.
أنت هنا تبحث عن التدين الشكلي، لا التدين الحقيقي. فالله ينظر إلى القلوب، لا إلى الصور والأجسام. ولا يمكن أن يُختزل الدين في المظاهر الخارجية
هوس الميكروفون والآلة الحاسبة
تجد من يرسل لك كل يوم جمعة عشرات الرسائل المليئة بالأدعية، ويقول لك: “ابعث الدعاء ده لخمسين واحد علشان تاخد كذا وكذا حسنة”. هكذا يتحول التدين الشكلي إلى معادلات تعتمد على أرقام وثواب محسوب بالآلة الحاسبة. “لو قلت كذا هتاخد سبعين حسنة… ولو عملت كذا هتاخد ثلاثين”. وهذا اختزال غير حقيقي للدين وكأنه عملية ميكانيكية لا روح فيها.
وكما هو مولع بالحسابات الرقمية، فهو مولع أيضا بالميكروفون. فالتدين الشكلي يقدّس مكبر الصوت إلى درجة غير معقولة: الآذان بالميكروفون، والإقامة بالميكروفون، والصلاة بالميكروفون، وامتلاء الشوارع بأصوات متداخلة من عشرات السماعات. مع أن الميكروفون لم يكن موجودا لا في عهد الرسول ولا في عهد الصحابة.
وعندما تُشير إلى أن الأمر أصبح ضجيجا وصخبا، يقال لك: “أنت ضد الإسلام! كيف لا تسمع كلام الله؟”، وكأن الإيمان يقاس بارتفاع الصوت وشدته. تختلط المفاهيم ليصبح الصوت العالي دليلا على قوة الإيمان.
هذه الظاهرة منتشرة في مجتمعاتنا العربية، خصوصا تلك التي تخضع لضغط ديني من الجماعات السلفية والإسلامية. الدول الأكثر شجاعة تكتفي بأن يكون الميكروفون للآذان والإقامة فقط، بينما دول أخرى تستسلم تماما لهذا الابتزاز، فيصبح الميكروفون جزءا من تفاصيل الحياة كلها، حتى صلاة الفجر تُذاع على الهواء عبر مكبرات الصوت، في انتهاك لراحة الناس وخصوصيتهم ومواقيت نومهم.
وتجد صاحب التدين الشكلي – الواثق جدا بنفسه – يشغّل القرآن في شارع بنيويورك مثلًا، ظنًا منه أن المارة سيتأثرون أو يفهمون شيئًا، بينما واقع الأمر أنه مجرد ضجيج لا يفهم منه أحد شيئًا. إنها مظاهر هدفها إعلان الذات وإثبات الهوية، أكثر مما هي ممارسة دينية حقيقية.
ختاما، تروي كتب السيرة أن عمر بن الخطاب دخل يوما إلى المسجد فرأى رجلًا يسأل الناس، وفي يده تمرة لا يجرؤ على أكلها قبل أن يعرف صاحبها. بدا هذا التصرف غريبا، وأشبه باستعراض شكلي للتقوى.
فجاءت كلمة عمر واضحة وصريحة: “كُلها يا ذا الورع الكاذب” — أي أن هذا ليس ورعا حقيقيا بل تظاهر وتكلّف.
وأنا أقول اليوم بالمثل لكل من يمارس هذا النوع من التدين المتصنّع: يا أصحاب الورع الكاذب، كُلوها… كُلوها.