بنادق القبائل في السودان

بنادق القبائل في السودان

Loading

يعيد انخراط القبائل في القتال الدائر بين الجيش و”قوات الدعم السريع” في السودان تأكيد دورها في ميادين الصراعات المسلّحة فيه ومساهمتها في صناعة حاضره وماضية.

بعد سقوط مدينة الفاشر في غرب السودان بيد “الدعم السريع” في أكتوبر الماضي، توالت شهادات السكان وتقارير منظّمات حقوقية عن حدوث عمليات قتل وانتهاكات بحق المدنيين على أساس الانتماء القبلي.

لكن دور القبيلة في السودان لم يبدأ مع اندلاع المعارك بين الطرفين في أبريل 2023، ولم يقتصر على ميادين الصراع المسلّح، وإنما امتدّ إلى ساحات السياسة والاقتصاد، وترك بصمة كبرى في كلّ منها.

على مستوى الصراعات الداخلية، اعتمدت السلطة في العقود الماضية على القبائل لدعمها وإسنادها سياسيّاً، وساهم انتماء نظام الرئيس السابق عمر البشير إلى تيار الإسلام السياسي في الربط بين الدين و”العروبة” والقبيلة. وتم توظيف هذه “الخلطة” في الصراعات الداخلية، إذا تمّ تحشيد القبائل العربية، مثل الرزيقات في الغرب ضد القبائل ذات الأصول الأفريقية التي قادت حركات التمرّد، وأبرزها الزغاوة والفور في إقليم دارفور، والنوبة في إقليم كردفان.

أما على المستوى الاقتصادي، فقد مارست القبائل أنشطة اقتصادية متنوعة، مثل الزراعة وتربية الماشية ورعيها، وهي قطاعات مهمة تشكّل رافعة الاقتصاد السوداني منذ عقود.

على هذا النحو لعبت القبيلة في السودان أدواراً متناقضة، وشكلت “عمود الدولة” في أحيان كثيرة، لكنها، في الوقت نفسه، كانت مصدر هشاشتها.

القبائل بين الجغرافيا والتاريخ

يتجاوز عدد سكان السودان 50 مليون نسمة، وتتكوّن خريطته السكانية من ثلاث مجموعات رئيسة: العرب الذين يتركّزون في الشمال والوسط والغرب، المجموعات غير العربية، مثل البجا في الشرق والنوبة في جبال النوبة والفور في دارفور، ومكونات أخرى كالزغاوة والداجو والفونج وغيرها، ويقيم العدد الأكبر من أفرادها في غرب السودان.

وقد شكلت قبائل البقارة (العربية)، مثل الزريقات، نواة قوات ساندت الحكومة منذ سنوات، وانبثقت منها “الدعم السريع”، فيما كانت قبائل الزغاوة والفور (الأفريقية) العمود الفقري للحركات المسلّحة المناهضة للنظام في دارفور، ما وضعها في مواجهة مباشرة مع سياسات الحكومة المركزية.

وفي شمال ووسط البلاد، شكّلت المجموعات النيلية، مثل الجعليين والشايقية، جزءًا من النخبة التقليدية المسيطرة على مفاصل الدولة منذ الاستقلال.

أما في الشرق، فقد مارست البجا وقبائل أخرى ضغوطاً سياسية كبيرة على الحكومة لفترات طويلة، تحت عناوين المشاركة السياسية والمطالب التنموية.

بنادق القبائل في السودان

دور القبائل ومستقبل السودان

في الصراع الدائر حاليًا في السودان، تم الاعتماد على الانتماء القبلي كأداة رئيسة لتجنيد المقاتلين وتعبئتهم.

وجدت قوات الدعم السريع في قبيلة الرزيقات (حزام البقارة) والقبائل المتحالفة معها قاعدة بشرية رئيسة.

وفي إقليمي دارفور وكردفان تحديداً، شكّلت قبائل عدة مجموعات قتالية للدفاع عن مناطقها، منها “قوات المقاومة الشعبية” و”مجموعات حماية الأحياء السكنية”، واختار بعضها العمل بمعزل عن الجيش، بينما ارتأى بعضها الآخر التنسيق معه.

وتجلّت الولاءات القبلية كقوة حاسمة في المعارك الدائرة حاليّا بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، خاصة في مناطق حزام البقارة الممتدة.

ويشرح الباحث د. عبد الله إبراهيم، أستاذ دراسات السلام في جامعة ميسوري أن “هذه المنطقة كانت لعقود على فوّهة السياسة بسبب قربها من مناطق الصراع مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، ما أدى إلى انتشار السلاح فيها وتحوّلها نحو اقتصاد الحرب”.

ويرفض د. إبراهيم وصف المنطقة بأنها “حاضنة” لـ”الدعم السريع” على أساس قبلي، ويرى أنها باتت “بيئة مأزومة تحوّلت فيها البندقية إلى مورد عيش”، ويعتبر أن “الدعم السريع باتت شركة عسكرية ذات اقتصاد موازٍ تستقطب المقاتلين من تلك البيئات المهمّشة”.

ومع استمرار الصراعات المسلّحة، بدا أن الكثير من القبائل والمجموعات العرقية انكفأت إلى مناطق تواجدها، وبات لكلّ قبيلة ومجموعة علاقتها الخاصة والمعقّدة مع الدولة وسرديتها عن التهميش والتمثيل، ومطالبها بشأن الحقوق السياسية والاقتصادية.

ويعتبر د. إبراهيم أن التحالفات العسكرية الحالية، مثل التحالف بين “الحركة الشعبية – جناح عبد العزيز الحلو” و”قوات الدعم السريع” تمثل تهديداً وجوديّا لوحدة السودان، وتوفّر بيئة للنزوع نحو كيانات قبلية وجهوية مستقلة، وتفتح الباب لتفكك الدولة المركزية”.

وتسيطر الحركة مع “الدعم السريع” على ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، ولطالما طالبت باعتماد خيار “الدولة العلمانية” أو الانفصال، فيما شكّلت “قوات الدعم السريع” مع حلفائها حكومة موازية.

ويحذر د. إبراهيم من أن استمرار الحرب سيكرّس واقع “الجهويات الكبرى” التي قد تتحوّل إلى كيانات شبه مستقلة، وأن القبيلة التي شكّلت حائط صدّ أمام التفكك في السابق، قد تصبح اليوم أداة لإعادة ترسيم الحدود داخل الدولة الواحدة.

وإزاء هذا الواقع، يشدد مراقبون على أهمية إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف، وإحداث توازن بين دور القبلية وسلطات الدولة المركزية، بما يزيل واحداً من أبرز أسباب الصراعات العسكرية والسياسية في البلاد، ويمهّد الطريق نحو الاستقرار والإزدهار.