جنون الفتوى

Loading

في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يتناول الكاتب والصحفي، إبراهيم عيسى، ما يطلق عليها ظاهرة “جنون الفتاوى”، متسائلا: كيف تحوّل الدين من مصدر للهداية والطمأنينة إلى سلطة تتدخل في كل تفاصيل الحياة اليومية؟.

يرى عيسى أن تضخم عدد الفتاوى – الذي تجاوز مليونا و400 ألف فتوى العام الماضي في مصر وحدها – ليس دليلا على التدين بقدر ما هو علامة على القلق وفقدان البوصلة الأخلاقية، وعلى تغوّل الوصاية الدينية في أدق شؤون الأفراد.

يشرح عيسى كيف تحوّل سؤال الإنسان من “هل هذا صواب أم خطأ؟” إلى “هل هذا حلال أم حرام؟”، وكيف نجح الخطاب السلفي والإسلام السياسي في جعل الناس يستفتون الشيوخ في كل صغيرة وكبيرة. ويناقش كذلك طبيعة الفتوى كسوق استهلاكي ضخم، تتنافس فيه المؤسسات الرسمية والجماعات المتطرفة على عقول الناس وضمائرهم.

النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة:

ربما تعرفون أن هناك فتوى – سلفية طبعا – تفرض على من أكل لحم الجمل أن يتوض. هذه مجرد بداية. نحن اليوم أمام ملايين الفتاوى. على سبيل المثال، أعلنت دار الإفتاء المصرية إحصاءً سنوياً يؤكد أنها تلقت عام 2024 نحو مليون و400 ألف فتوى. تخيلوا، المصريون طلبوا ما يقارب مليونا ونصف المليون فتوى!

هذا الرقم يدفعنا للتساؤل: ألهذا الحد لا يعرف الناس دينهم؟ أو ألهذا الحدّ أصبحوا في حيرة من أمرهم؟ أو إلى أي مدى أدخلوا الدين في ما لا يجب أن يدخل فيه؟ لماذا يتصورون أن الدين متداخل في كل تفاصيل حياتهم؟ هل كل حركة منهم تحتاج إلى فتوى؟ أليس هو دين الهداية والنور والإرشاد، وأنت كبشر يمكن أن تعيش وفق قواعدك الإنسانية وأخلاقك وقيمك وأعرافك وثقافتك وقوانينك، دون الحاجة إلى كل هذه الفتاوى؟ مليون ونصف المليون فتوى رقم مهول، ويعكس تحوّلا كبيرا في الحياة الاجتماعية والإنسانية.

من الهداية إلى الهيمنة

حين ننظر إلى مليون ونصف المليون فتوى، نجد أن 67 في المئة منها تتعلق بشؤون الأسرة والأحوال الشخصية. هذا يعني أننا أمام فتاوى تدور حول تفاصيل الحياة الزوجية، حتى ما يجري على سرير الزوجية نفسه.

هذا كله يعني أننا أرهقنا الناس كثيرا، وبلبلنا أفكارهم وشوّشنا وحيّرنا عقولهم إلى حد بعيد. السبب في ذلك أن الناس باتوا يعيشون قلقا دائما تجاه تصرفاتهم وسلوكهم، فأصبح السؤال المسيطر: هل هذا موافق للدين أم لا؟ هل أفعله أم لا؟ هل هو حلال أم حرام؟

تحوّل الأمر من سؤال “صحيح أو خطأ، جميل أو قبيح” إلى “حلال أو حرام”. وسؤال الحلال والحرام هذا ينبغي أن يشغل 5 بالمئة من حياتك، لا 95 في المئة. الأصل في الحياة أن تسأل: هل هو صواب أم خطأ؟ عيب أم لا؟ هذه هي الحياة. أما الوصول إلى سؤال الحلال والحرام فهو للمسائل الكبرى والمصيرية التي تهم ضميرك الديني فعلا. أما الآن فقد صار هذا السؤال يتسلل إلى كل التفاصيل. هذا التحول يعني أننا أدخلنا الدين في كل صغيرة وكبيرة.

وحين نرى أن أغلب الأسئلة تدور حول الأسرة والأحوال الشخصية، فهذا يدل على أن الهيمنة لم تعد مقتصرة على المجال العام أو التشريعات الكبرى، بل امتدت إلى الضمير الفردي والبيوت المغلقة. إن هذا الرقم الهائل لا يعكس فقط الالتزام الديني، بل يعبر عن فقدان عميق للبوصلة الأخلاقية المستقلة، والاعتماد الكلي على سلطة دينية لتأمين الطمأنينة حتى في أبسط الأفعال.

وهذا ما نجح فيه الإسلام السياسي والسلفيون والوهابيون: فكرة إدخال الدين في كل شيء، حتى في دخول الحمّام. أصبح الناس يعيشون قلقا دائما، لا يقدرون على التصرف بشكل طبيعي أو إنساني دون استشارة المفتي. كل تصرف، مهما كان بسيطا، صار يحتاج إلى “أسأل المفتي، أعمل إيه؟”. هذه ظاهرة مدهشة ومقلقة.

وحين يتمكن الفقه من التغلغل في هذه المساحات الحميمة، فإنه يضمن غياب أي فضاء حر أو مدني خارج سلطة الدين، فتتحول الحياة اليومية إلى مساحة خاضعة تماما للوصاية.

سوق العرض والطلب

هذا التضخم في الفتاوى يقودنا إلى النظر في طبيعة الفتوى نفسها. الطلب على الفتوى قديم، لكن أن يصبح بهذا الحجم الكبير فذلك يعني أننا أمام سوق استهلاكي ضخم للفتوى.

في العقود الأخيرة، شهدنا تضخما في طلب الفتاوى وتحولها إلى سلعة. صارت الفتوى تُستهلك وتُباع وتُشترى، وأصبح لها سوق وعرض وطلب.

تخيلوا أنه كان هناك إعلان يقول: “اطلب فتوى بالتليفون، وأجب بعد 24 ساعة، سعر المكالمة جنيهين”. هذه كانت تجارة الفتوى. أما اليوم فقد أصبحت الفتوى منتجا رقميا، تُرسل في رسالة إلكترونية أو تُعرض في برنامج تلفزيوني مباشر، يتلقى خلاله السائل الإجابة من الشيخ على الهواء.

لكن رغم كل هذا التسليع، هناك مسألة مهمة وحساسة: الفتوى غير ملزمة. لا توجد فتوى ملزمة، حتى لو صدرت من أرفع دار إفتاء في العالم الإسلامي. قد تأخذ بها الدولة في قوانينها، لكن المواطن في بيته حرّ في ما يفعل.

فمثلاً، لو قالت دار الإفتاء إن ارتداء الرجل “دبلة” الزواج الذهبية حرام، يمكنك أن تلبسها ببساطة. ولو قالت إن فوائد البنوك حلال، فهناك من يرفضها، وهذا رأيهم. الفتوى لا تلزم أحدا، وهي بلا قوة قانونية أو إلزام شرعي.

لماذا الفتوى غير ملزمة؟ لأن هناك عشرات الآراء المختلفة. لو سألت عن حكم لعب الشطرنج، ستجد مئات الفتاوى المختلفة.

واجب المفتي وصراع الوصاية

يا فضيلة الشيخ، حين تُسأل عن فتوى في مسألة ما، فأنت ملزم أن تعرض كل الآراء، لا رأيك وحدك. عليك أن تقول: فلان قال كذا، وفلان قال كذا، ثم تبين رأيك الشخصي. أما أن تقدم فتوى واحدة وكأنها الحقيقة المطلقة، فهذا تضليل. فما بالك بمحاولات “توحيد الفتوى”؟ لا وجود لفتوى موحدة، فالفتوى بطبيعتها اجتهاد مفتوح.

دار الإفتاء موجودة لتجيب من يسأل، لكن القرار النهائي للمواطن نفسه. المفترض أن تشرح الدار كل الفتاوى حول المسألة، لا أن تفرض واحدة. لكنهم يريدون توحيد الجهة والفتوى معاً.

الحديث النبوي يقول: “استفتِ قلبك”. لكنهم لا يحبون هذا المبدأ، لأنه يحرر الإنسان من وصايتهم. فيقولون: وهل أي أحد يستفتي قلبه؟ ألا يجب أن يكون عالما؟

وهنا المفارقة: هل نزل القرآن للعالِم وحده؟ القرآن نزل لكل مؤمن به، لا للمشايخ فقط. ولسنا ملزمين بما فهموه أو استنتجوه من القرآن. في النهاية، كل إنسان يستفتي قلبه ويفعل ما يراه صواباً.

الإصرار على الوصاية يصطدم بحقيقة بسيطة: أن الله سيحاسب كل إنسان على أفعاله هو، لا على فتاوى غيره. دفع الناس للاعتماد التام على المفتي يعني تجريدهم من عقولهم وقلوبهم كأدوات للفهم والاجتهاد، وهو ما يكرس سلطة الوصاية.

صراع توحيد الفتوى

هناك رغبة دائمة في الهيمنة والسيطرة على عقول المسلمين وحياتهم. ولتحقيق ذلك، يجب أولا إغلاق باب الاجتهاد. فيُقال: هذه الفتوى هي الوحيدة الصحيحة والملزمة.

هذا يعني التخلي عن الفتوى المتعددة أو المتغيرة أو المتنوعة. هم يريدون توحيد جهة الفتوى وتوحيد الفتوى نفسها وإلزامك بها. وهذه هي الدولة الدينية: هذه طالبان، هذه إيران!

توحيد جهة الفتوى لا يصح إلا حين تريد دولة – غير مدنية طبعا – إصدار قانون، فتأخذ فتوى من جهة معينة لتستند إليها. أما المواطن، فلا تلزمه أي فتوى، سواء من هيئة كبار العلماء في السعودية أو دار الإفتاء في مصر. يمكنه الأخذ بفتوى من أي عالم في أي مكان في العالم.

الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان. لا توجد فتوى ثابتة صالحة لكل عصر. لكن الخطورة أن المؤسسات الدينية نفسها تتبدل وتتلون تبعا للحاكم أو المصلحة.

انظروا إلى مواقفهم من سيد قطب والإخوان في الستينيات، ثم في السبعينيات والثمانينيات، ثم اليوم. فتاواهم تتغير باستمرار. ومع ذلك يريدون إلزامك بفتاوى تتغير باستمرار.

صراع المرجعية مع فتاوى الإرهاب

في النهاية، هناك تنافس في سوق الفتوى. المؤسسات الرسمية تريد احتكار الإفتاء وتمنع الجهات الأخرى من مزاحمتها. “كيف يفتي هؤلاء؟ يجب أن نفتي نحن فقط .. هناك صراع على الرزق في هذا الموضوع”.

الدولة ترى أيضا أن الجماعات المتطرفة تصدر فتاوى خطيرة، فتسعى لإبراز فتاوى رسمية أكثر “اعتدالا”.

لكن الحقيقة أن كل الفتاوى، حتى فتاوى الإرهابيين، تستند إلى النصوص نفسها. لا أحد منهم يفتي من العدم. لكل تنظيم مفتيه ومرجعيته، وكلهم يستندون إلى كتب التراث نفسها.

محاولة عزل هذه النصوص تخلق أزمة مرجعية. فالدين، كما هو، يحتوي على مفاهيم للسماحة كما يحتوي على مفاهيم للجهاد والقتال. والإرهابي يستند إلى هذه النصوص نفسها.

لذلك، كل جهة تريد أن توحد الفتوى لتجعل فتواها هي العليا: داعش تطبقها بالسيف، والدولة تريد أن تطبق سياستها وأن تجعل دار الإفتاء التابعة لها هي مصدر الفتوى للناس.

لكن الحقيقة أن الإنسان هو من يفتي لنفسه ويستفتي قلبه، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تصلح واحدة لكل عصر. مقاومة التغيير هي مقاومة للاجتهاد، ومقاومة الاجتهاد هي مقاومة للحرية.