![]()
في مساء يوم الثلاثاء في القاهرة، كانت الشاشات مشتعلة. مقهى مزدحم في وسط القاهرة يتابع مباراة ليفربول وريال مدريد، والعيون تتعقب كل لمسة من محمد صلاح. ذلك الشاب الذي حمل اسمه من قرى مصر إلى مدرجات أنفيلد في مدينة ليفربول الإنكليزية، فصار رمزا لفكرة أبسط مما تبدو: أن القادم من الشرق قد يغيّر قواعد اللعبة في الغرب.
وبين هجمة مرتدة وتعليق حماسي، انحرف الحديث فجأة من الكرة إلى السياسة. قال أحد أصدقائي، وهو يقلب في هاتفه بفضول: “بالمناسبة.. مين الراجل العربي اللي هيبقى الحاكم بتاع نيويورك؟“.
ابتسمت. السؤال نفسه كان مرآة لأحلام كثيرة ولخلط شائع بين “مدينة نيويورك“ و“ولاية نيويورك“، بين “عمدة” المدينة وبين “حاكم” الولاية، لكنه كان أكثر من خطأ جغرافي، كان تعبيرا عن شغف دفين بأن نرى وجها يشبهنا، ولو قليلا، في واحدة من أكثر مدن العالم نفوذا وثراء.
مع اقتراب صافرة نهاية المباراة، كانت صافرة أخرى تُوشِك أن تُسمَع على بُعد آلاف الكيلومترات: نتائج انتخابات عمدة نيويورك. وبين ضجيج المقهى وصخب المدرجات الأوروبية، وجدت نفسي أعود بالذاكرة إلى ربيع 2023، إلى تلك اللحظة التي زرت فيها مدينة نيويورك لأول مرة.
عرفت نيويورك قبل أن أراها: من شقة مسلسل “فريندز” الصغيرة، من لقطات التاكسي الأصفر في أفلام لا تنتهي.. لذلك، عندما دخلت المدينة ليلًا لأول عبر جسر “كوينزبورو”، شعرت كأنني أخترق مشهد أعرف ملامحه.
ناطحات السحاب تصعد في السماء بثقة، والمدينة تتوهج بضجيجها كما لو أنها تكتب تعريفا جديدا للفرصة كل دقيقة.
مددت يدي تلقائيا للسماعات وشغّلت أغنية Empire State of Mind. قد يراها البعض لحظة مستهلكة لكني كنت أردد في في سري:
There’s nothing’ you can’t do
.Now you’re in New York
لا يوجد شيء لا تستطيع أن تفعله
أنت الآن في نيويورك.
نعم، هنا، لا أحد ينتظرك أو يلتفت إليك، لكن الجميع يمكن أن يصبح شيئا في نيويورك!
لم تكن المدينة مدينة الأفلام تماما، لكنها كانت شيئا أكبر: مدينة الأفكار. لكنني لم أجد نفسي هناك إلا حين نصحني أحدهم: “اذهب إلى كوينز، إلى ستاينواي ستريت. هناك حيث يشبه الناس رائحة بيوتنا ودفء صباحات القاهرة”.
ذهبت. وهناك بين المحال العربية، وأصوات الشاورما التي تُقلب بارتجال، ورائحة القهوة المحمصة في محلات لبنانية عمرها عقود، وجدت صورة مختلفة لأميركا: جالية عربية ومسلمة ليست هامشا، بل جزءا حيا.
“منكم وإليكم”
بعد فوزه، اعتلى زهران المنصة، وضع يده على صدره، وقال بالعربية: منكم وإليكم.
جملة واحدة قطعت المحيط.
سمعها شاب عربي يعمل في متجر بقالة في بروكلين، وسمعتها أم في القاهرة تتمنى أن ترى ابنها في مكان يليق به.
لحظةٌ أعادت تعريف المسافة بين هنا وهناك.
لم تكن مجرد عبارة، بل كانت مرآة: لكل مهاجر يبحث عن معنى.
مع ذلك، لم تكن ردود العالم العربي موحّدة تجاه فوز ممداني. وهذا طبيعي.
محمد البرادعي، المدير العام الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتب عبر حسابه على منصة “أكس” عن “ديمقراطية تمنح الأمل وتعيد الاعتبار لفكرة العدالة الاجتماعية“.
علاء مبارك، نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، نشر تهنئة على موقع ” أكس” قال فيها إن نيويورك حصلت على أول عمدة مسلم في تاريخها.
الإعلاميون، المحللون، النشطاء، وحتى من يتابع السياسة عبر “التريند“ فقط، انخرطوا فجأة في نقاش عميق.
لكن وسط هذا الزخم، تصاعد سؤال يعرف منطق المنطقة جيدا:
ماذا يعني فوز ممداني؟ هل هو “نصر للإسلام”؟ هل هو نجاح للمهاجرين؟ هل هو مجرد فوز سياسي يساري؟ أم تحوّل اجتماعي في قلب أميركا؟
منشور على “Threads” كتبه أحد المعلقين العرب قال بوضوح:
“فرحكم بمسلم فاز جميل. لكن لا نحَمِّله أكثر مما يحتمل. الرجل لم يُنتخب بوصفه ممثلًا للإسلام، بل ممثلًا لقيم سياسية واجتماعية“.
وعلّق آخر بنبرة مغايرة: “هذا ليس انتصارا إسلاميا، بل انتصار لفكرة أن تكون إنسانًا في مكان يسمح لك أن تصبح ما تريد“.
حتى قبل فوزه، اختبرت الجالية العربية لحظة مرتبكة حين بدأ البعض يصف ممداني بالعربي. والحقيقة أنه أوغندي من أصول هندية، مسلم، متزوج من فنانة سورية أميركية. هذا الارتباك لم يحدث صدفة.
نحن في منطقة نبحث غالبا عن كل صوت يشبهنا، حتى قبل أن نشعر إن كنا نشبهه فعلًا. لكن ربما كان الأجمل في هذه الحالة تحديدا أن ممداني لم يربح بفضل هويته، بل ربح رغما عن كل تعقيداتها: أبوه باحث في السياسة، أمه صانعة أفلام، زوجته فنانة سورية، قضى طفولته بين كمبالا ونيويورك ودوائر اليسار.
حملة صُنعت من الشارع لا من مبنى الحزب
قصة صعود ممداني ليست قصة مال أو أجهزة حزبية ضخمة. إنها قصة أبواب طُرقَت، شباب وزعوا منشورات، جدات صنعن سندويتشات للمتطوعين، طلاب جامعات ناقشوا أفكاره في مترو الأنفاق.
في أحد مقاطع الفيديو ظهر ممداني يتحدث العربية في إعلان انتخابي يخاطب العرب مباشرة: نحن هنا. صوتكم مهم. صوتكم قادر.
لم نعتد على سياسي أميركي يتحدث إلينا بهذه الطريقة. ليس لأننا غير مهمين، بل لأننا لم نكن نعرف أننا مهمون.
فيها شيء يشبه ما قالته السيدة الثمانينية كارلا في نيويورك: كثير من قادتنا تقدّموا في العمر. قلوبهم في مكانها الصحيح، لكنهم بعيدون عن نبض الواقع. نحتاج لصوت شاب. ولسنا نخشى أن نجرب.
جملة تكشف شيئا ما يزال بعيدا جدا في مجتمعاتنا: الثقة بالشباب لا حين يهتفون، بل حين يقودون.
بين القاهرة ونيويورك.. نفس السؤال القديم
حين عدتُ إلى القاهرة قبل أشهر، عدتُ من مدينة واسعة الاحتمالات إلى مدينة أعرفها وتحفظني، لكنها تختبر طاقتي وصبري كل يوم. كنت قادما من مكان يبدو فيه أن الباب يُفتح إذا طرقتَه بما يكفي، إلى مكانٍ ترى فيه كثيرا من الأبواب، لكنك لا تعرف أي مفتاح يبدأ القصة.
وهناك، في المسافة بين نيويورك ووسط القاهرة، ظل سؤال يطاردني:
لماذا يستطيع شاب مثل زهران ممداني أن يصعد هناك؟ ولماذا تبدو الطريق هنا طويلة، متعرّجة، مثقلة بما قبلها أكثر مما تُبشر بما بعدها؟
هل المشكلة في النظام السياسي؟ في المجتمع؟ في بنية المؤسسات؟ أم فينا نحن. في خيباتنا المتراكمة، في ترددنا حين نصطدم بالباب الأول فنعود بدلا من أن نبحث عن بابٍ آخر؟
سألتُ هذا السؤال لصديق أعرفه بخبرته مع الخطاب العام، محمود الهواري، المتحدث الرسمي السابق لعدد من الهيئات الدولية ومدرّب في التواصل الاستراتيجي. هزّ رأسه وقال جملة التقطتها فورا: “نجاح مثل هذا لا يصنعه فرد.. بل منظومة تسمح للفرد بأن يُجرّب دون أن يُعاقَب على التجربة“.
كان يقصد أن زهران لم ينتصر لأنه عبقري وحيد في مشهدٍ رمادي، بل لأنه وجد نظاما يستوعب المحاولة ويكافئ الجرأة بدل أن يخاف منها.
وهذه الجملة وحدها كانت كافية لتعيد كل الأسئلة إلى مكانها الصحيح. المشكلة ليست في أننا لا نملك أفرادا قادرين، بل في أن الطريق نفسه لا يزال ضيقا، والمجازفة فيه تُعامل كخطر.
هل يمكن أن نرى “زهران“ عربيًا؟
قد يحدث هذا، لكن ليس قبل أن نغيّر نظرتنا للسياسة.. ليس قبل أن نفهم أن الهوية مهمة، لكن القيم والبرنامج والقدرة على التنظيم هي التي تصنع السلطة.
هناك لحظة يجب أن نصل إليها في العالم العربي. أن يصبح فوز شخص منا بجائزة نوبل أو منصب عالمي أو كرسي عمدة نيويورك مصدر إلهام لا تعويضًا عن عجز داخلي. زهران ليس “البطل المسلم الذي انتصر في الغرب“. هو نتاج منظومة تؤمن بالفكرة قبل الفرد، بالمواطنة قبل الانتماء، بمستقبل يُصنع عبر الصندوق لا فوقه.
بعد ساعات من إعلان النتائج، وصلني من أمي على “واتساب“ منشور يتداول على فيسبوك: “زهران عنده 34 سنة، ومتزوج وبقى عمدة نيويورك.. إنت حجتك إيه؟“.
ضحكت. ثم أحسست بتلك الوخزة التي يعرفها جيل كامل.
أنا أيضا على أعتاب الرابعة والثلاثين من عمري لكني لست عمدة، ولا أعرف خريطتي المهنية المقبلة بدقة، وأقف مثل كثيرين عند عتبة مستقبل يتشكل ببطء مؤلم.
لكنني لم أصب بخيبة الأمل، لأن وراء النكتة خوفا من الزمن، وأملا بأن نترك أثرا قبل أن يُغلق الستار.
الشرق الأوسط يحتفي بزهران لأنه يعكس شيئًا في داخلنا ربما حلما بألا نكون على هامش العالم.
لكنه أيضا مرآة صارمة تقول لنا الحقيقة بلا تجميل: أننا لن نصل إلى لحظة مشابهة قبل أن نتعلم الثقة، ونبني مؤسسات تحمي ولا تهدم، ونمنح الفرصة لا لندّعي أننا نملكها، بل لنرى ماذا نفعل بها حين تتاح.
ربما كل هذا يمكن تلخيصه في جملته التي حملت أكثر مما بدت عليه: “منكم وإليكم“.
فالديمقراطية في جوهرها ليست صندوقا ولا شعارا ولا موجة تصفيق عابرة. إنها علاقة، تبدأ حين نؤمن أننا نحن من يصنع السياسة، لا أن السياسة قدرٌ يصنعنا.