المال الرقمي يتدفق على “الخليج”

Loading

تتقدّم الدول الخليجية نحو مرحلة جديدة من التحوّل النقدي، وتشهد أسواق العملات الرقمية فيها انتعاشة غير مسبوقة.

وقد قطعت هذه الدول شوطاً مهماً في هذا الاتجاه، أصبحت معه العملات الرقمية جزءاً من مشروع خليجيّ أوسع لإعادة هندسة البنى الاقتصادية ضمن رؤية التنوّع والتحول الرقمي.

في إطار هذا المشروع، سارعت الإمارات إلى تنظيم سوق العملات الرقمية، وأطلقت منظومة هي الأكثر تقدّماً في المنطقة، ما جعل دبي محطة مهمة لنشاط الشركات الرقمية على مستوى العالم.

وفي البحرين، اعتمد المصرف المركزي إطاراً رقابياً شاملاً مكّن المملكة من جذب شركات كبرى، مثل(Binance) ، لتكون أوّل منصّة عالمية مرخصة خليجيّا.

أما السعودية، فتواصل تقدّمها بحذر من خلال مشاريع تجريبية، مثل “مشروع عابر” المشترك مع الإمارات، لتطوير عملة رقمية للبنوك المركزية (CBDC)، تُستخدم في المدفوعات العابرة للحدود، بينما تمضي قطر وعُمان في بناء لوائح لتنظيم الأصول الافتراضية وفق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

يقول الخبير الاقتصادي المختص في أسواق المال عمرو زكريا عبده لـ”الحرة”: “بينما كانت المراكز المالية الغربية تعاني من عدم اليقين التنظيمي، تحرّكت دول الخليج بشكل حاسم لوضع أطر واضحة للأصول الرقمية”.

لكن محاولات هذه الدول لتلبية “الطموحات الرقمية” لديها لا يبدو ورديّا تماماً، فثمة صعوبات وعقبات لا بد من تذليلها، كي يكتب لها النجاح وتصبح مقرّات عالمية للمال الرقمي.

جهود تنظيم الأسواق

منذ سنوات، اتجهت دول مجلس التعاون الخليجي في تعاملها مع العملات الرقمية نحو “الانفتاح المحسوب”، باعتبار أن الابتكار الماليّ غير المنضبط يهدد الاستقرار النقدي، خصوصاً في ظلّ اقتصادات ترتبط عملاتها بسياسات نقدية صارمة ومصارف مركزية قوية.

وعلى وقع هذه السياسة الحذرة، ارتفع عدد مراكز التكنولوجيا المالية في دول مجلس التعاون الخليجي من مركز واحد فقط عام 2018 إلى 9 مراكز بحلول 2024، ثم قفز إلى أكثر من 1500 شركة تكنولوجيا مالية نشطة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 2025.

لذلك، يعتبر عبده أن “عواصم الدول الخليجية جعلت نفسها وجهات عالمية رائدة لشركات البلوكتشين والعملات المشفّرة من خلال استراتيجية مدروسة تعتمد على أطر تنظيمية مبكرة وشاملة وتطوير النظام البيئي”، ويشدد على أن “هذا النهج الاستباقي أوجد تأثيرات شبكية قوية تجذب شركات التكنولوجيا المالية الدولية ورؤوس الأموال”.

على أن دول مجلس التعاون التي تسعى لأن تكون وجهة للعملات الرقمية والمشفّرة وشركاتها الكبرى حول العالم، لا تعتمد السياسة نفسها لتحقيق هذا الهدف، فيما ما تزال دول أخرى تغرّد خارج السرب.

يرى المحلل الاقتصادي، صلاح الجيماز، في حديثه لـ”الحرة” أن هناك تبايناً واضحاً بين الدول الخليجية في التعامل مع العملات المشفرة والافتراضية والاستفادة منها بشكل قانوني ومنظّم بعيداً عن أيّ شبهات غسل أموال، مع السعي في الوقت نفسه إلى توظيفها كمصدر دخل وطنيّ جديد”.

وفي معرض حديثه عن هذا التباين، يشير الجيماز إلى الكويت، قائلاً إنها “تختلف كثيراً عن دبي والبحرين والرياض لأنها ما زالت تحظر التعامل بالعملات المشفرة. كذلك قطر، التي لم تعلن بعد موقفاً واضحاً. أما عُمان فتسير في مسار متوازن بين الانفتاح والتحفظ”.

رهان “المستقبل الرقمي”

تنظر دول مجلس التعاون الخليجي إلى العملات الرقمية والأصول الافتراضية بوصفها أحد مجالات الاقتصاد غير النفطي ومحركاً جديداً لتنوّع يوازن بين فرص الابتكار المالي وضرورة ضبط المخاطر التنظيمية.

وتتصدّر الإمارات والسعودية الدول الخليجية في بذل الجهود لبناء منظومة مالية رقمية متكاملة، وتلحق بهما البحرين وقطر وعُمان بدرجات متفاوتة من الانفتاح والحذر.

“وفّرت صناديق الثروة السيادية السيولة الأساسية، بينما أسهمت مسارات الترخيص الواضحة والدعم المؤسسي في تقليل الاحتكاك مع الشركات الدولية الراغبة في تأسيس مقرات إقليمية لها في المنطقة”، كما يوضح عبده.

ويعتبر عبده أن “الاستثمارات الخليجية المبكرة في الوضوح التنظيمي وتطوير النظام البيئي أرست دعائم المنطقة كأحد أهم مراكز العملات الرقمية والأصول الرمزية في العالم”.

وتفتح آخر الأرقام بخصوص سوق العملات الرقمية في الدول الخليجية نافذة على مستقبلها، فقد تجاوزت قيمة معاملات الأصول الافتراضية المرخّصة في دبي حاجز 2.5 تريليون درهم (نحو 680 مليار دولار) منذ بداية 2025، وفق بيانات سلطة تنظيم الأصول الافتراضية (VARA) ،  فيما يشير تقرير صادر عن شركة “ماينينغ غريد” إلى أن سوق العملات المشفّرة في الإمارات سجّل تدفقات استثمارية بلغت 34 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2023 إلى يونيو 2024.

وتقدّر سوق الأصول الرقمية في السعودية بنحو23  مليار دولار في عام 2024، وفق “مجموعة أيمارك” (IMARC) للاستشارات الإدارية، مع توقعات بتجاوزه  45 مليار دولار بحلول عام 2033.

وفي البحرين، بلغ حجم سوق الأصول المشفرة نحو1.3  مليار دولار لعام 2024 ، وفق تقرير صادر عن شركة Ken Research” “.

وتشير البيانات الرسمية إلى أن إيرادات سوق العملات الرقمية في الكويت ستصل إلى 58.1 مليون دولار عام 2025. وفي سلطنة عُمان، يُقدر حجم السوق الرقمية بنحو  35مليون دولار لعام 2025 مع توقّع ببلوغه 38 مليون دولار في عام 2026، أما في قطر، فقد وصل حجم سوق التكنولوجيا المالية، بما في ذلك الأصول الرقمية، إلى453.4  مليون دولار عام 2024 مع توقع نموه إلى أكثر من ملياري دولار بحلول عام 2033.

ورغم هذه التوقعات المتفائلة، يؤكد الجيماز أن البنية التحتية الخليجية لاستقبال هذه التقنيات المالية الجديدة لا تزال في طور التكوين، وأن الأمر يتطلّب الاستعانة بالمنصات العالمية وتوطينها في المنطقة”.

ويرى الجيماز أن “العملات المشفّرة قد تشكّل فرصة حقيقية لتعزيز التنوع الاقتصادي، وفتح أبواب أوسع من الإيراردات النفطية أمام الدول في المستقبل”.