![]()
في إسرائيل، لا تأتي الزلازل من تحت الأرض فقط. أحيانًا تهتزّ الدولة من توقيعٍ على ورقة أو من قرارٍ يصدر في مكتبٍ صغير داخل مقرّ النيابة العسكرية.
هكذا بدأت قصة ميجر جنرال يفعات تومير يروشالمي المدعية العسكرية – امرأة اعتقدت أنها تضع حماية القانون فوق كل اعتبار، وانتهى بها الأمر في قلب عاصفة هزّت المؤسسة العسكرية والقضائية من جذورها.
التنكيل الجنسي في “سدي تيمان”
كل شيء بدأ في صيف 2024، حين نقلت وحدات الجيش إلى مستشفى بئر السبع معتقلا فلسطينيا من معتقل “سدي تيمان” بحالة خطيرة: كدمات، كسور في الأضلاع، تمزق في الرئة والشرج.
التحقيق الذي فتحته الشرطة العسكرية كشف ممارسات عنفٍ قاسية نفذها جنود من وحدة تُعرف بـ”قوة 100″.
لكن الصدمة لم تحدث نتيجة لفداحة الانتهاك ، بل بسبب التأييد الشعبي الذي حظي به الجنود المعتدين: تظاهرات، واقتحامات لقواعد الجيش، ونواب ووزراء من اليمين يهاجمون النيابة العسكرية ويتهمونها بـ”مطاردة الأبطال،” في إشارة إلى الجنود، مرتكبي الاعتداءات الجنسية.
وسط هذه الفوضى، كانت يفعات يروشالمي تحاول أن تفعل ما تراه صوابا: تطبيق القانون على الجميع، حتى لو كان المتهم جنديا يرتدي الزي العسكري الذي ترتديه هي نفسها.
في أغسطس 2024، بثّت القناة 12 فيديو من داخل المعتقل، التقطته كاميرات المراقبة.
المشهد كان صادما: مجموعة جنود يجرّون معتقلا فلسطينيا إلى زاوية ويعتدون عليه جسديا وجنسيا. أحرج الفيديو المؤسسة العسكرية، وكان السؤال الكبير الوحيد: من سرّب المقطع؟
عندما وصلت القضية إلى المحكمة العليا، قدّمت يروشالمي بنفسها ردا رسميا قالت فيه إنها لا تعرف. بدا كل شيء محسوبا قانونيا، حتى حلت الصدفة التي غيّرت مسار حياتها.
الصدفة التي كشفت المستور
بعد أكثر من عام، وبينما كانت متحدثة النيابة العسكرية تخضع لاختبار كشف الكذب ضمن إجراءات تعيينها قاضية عسكرية: اعترفت على نحو مفاجئ بأنها هي من سلّمت الفيديو لمراسل القناة، بمعرفة يروشالمي وموافقتها شخصيا.
وصلت المعلومة إلى الشاباك، ومنه إلى المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف ميارا، التي أمرت فورا بفتح تحقيق جنائي في التسرّب، بتهم تشمل إفشاء مواد سرية وتقديم إفادة كاذبة للمحكمة العليا.
في لحظة، تحوّلت يروشالمي من رمز للمحاسبة إلى موضع تحقيق جنائي، ومن حامية للقانون إلى متهمة بـ”خرقه”.
اتجهت الأضواء نحوها.
وبعد أن تفجرت القضية، لم يتردد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في استغلالها لتوجيه الاتهامات للمنظومة القضائية العسكرية، وربما للمنظومة القضائية التي يخوض، هو شخصيا، في مواجهة مفتوحا معها.
في مستهل جلسة الحكومة، وصف نتنياهو ما حدث في سدي تيمان بأنه “الضرر الدعائي الأكبر الذي لحق بإسرائيل والجيش منذ قيام الدولة،” مضيفا أن ما جرى “يتطلّب تحقيقا مستقلا وغير منحاز”.
كلماته التي بدت كأنها تدين ضمنا الفعل الذي وثّقه الفيديو ومن سرّب الشريط من داخل المؤسسة، فتحت الباب أمام تسييس كامل للقضية.
رأى كثيرون أن نتنياهو سعى من خلال تصريحاته إلى تحويل الغضب الشعبي من الفضيحة ذاتها نحو الجهة التي كشفتها.
أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس، فذهب أبعد من ذلك بكثير. فقد أثنى على إخراج يروشالمي بإجازة قسرية، وقال إن “من يختلق فرية دم ضد جنود الجيش الإسرائيلي لا يستحق أن يرتدي بزّته العسكرية”، قبل أن يعلن رسميا أنها “لن تعود إلى منصبها”، وأنه سيعمل على تعيين مدّعٍ عسكري جديد.
وفي سلسلة تصريحات لاحقة، اتهم كاتس يروشمالي بأنها “فضّلت مصلحة مخربي النخبة التابعة لحماس على مصلحة جنودها،” ودعا إلى حرمانها من رتبها ومحاسبة كل من شارك في ما أطلق عليه “أكذوبة الدم”.
فُسرت تصريحات كاتس على نطاق واسع بأنها “تصفية علنية” لمسؤولة قانونية أرادت محاسبة الجناة، فحوّلها النظام السياسي إلى كبش فداء.
في المقابل، لم تمر تلك المواقف دون رد. انتقدت شخصيات قانونية وصحافية بارزة ما وصفته بـ”التحريض المنهجي” ضد المدعية العسكرية، وأشارت إلى أن القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل استغلت التسريب لتغيير مسار الغضب: من مشاهد التعذيب داخل المعتقل، إلى من تجرأ على كشفها.
وكتبت “هآرتس” أن “من يصوّب سهامه نحو يروشالمي إنما يسعى إلى تبرئة من اعتدوا على أسيرٍ مقيّد، وإلى تخويف كل من قد يجرؤ مستقبلا على التحقيق في جرائم الحرب”.
هكذا تحوّلت يروشالمي من قاضية عسكرية إلى عنوان للانقسام داخل إسرائيل: بين سياسيين يحاولون حماية صورة الدولة، ومؤسسة قضائية تكافح لتذكيرهم بأن العدالة لا تُدار بالولاء، بل بالحقيقة.
بين العناوين، حاولت يروشالمي الصمود. لكنها كانت تعلم أن المعركة لم تعد قانونية فقط.
في يوم الجمعة الماضي، وبعد أيام من التحقيقات والتسريبات الإعلامية، قدّمت يروشالمي استقالتها بخط يدها.
قالت في رسالتها إنها وافقت على التسريب “لمنع تضليل الرأي العام” بعد أن رأت كيف يتم تشويه الحقائق في الإعلام.
لكنها لم تستطع الصمود طويلا.
في صباح الثاني من نوفمبر، اختفت. وعُثر على سيارتها متروكة قرب شاطئ تل أبيب، وبداخلها رسالة وداع قصيرة.
أُعلنت مفقودة لساعات، وهرعت قوات معززة من الجيش والشرطة والإنقاذ مستعينة بوسائل خاصة للبحث عنها، وفتحت قنوات التلفاز الإسرائيلية تغطية مباشرة من موقع الحدث بسبب المخاوف على حياتها، قبل أن يُعثر عليها عند شاطئ هرتسليا، منهارة ومبللة بالماء. نُقلت إلى المستشفى، ثم خضعت للتحقيق مجددا وهي رهن الاعتقال حاليا.
القضية التي أطاحت بيفعات تومير يروشالمي ليست قصة تسريب ولا تصفية حسابات بين مؤسسات، بل في جوهرها جريمة مروّعة ارتُكبت بحق معتقل فلسطيني أعزل – جريمة تعذيب جسدي وإذلال جنسيّ وثّقها شريطٌ صوَّرته كاميرات إسرائيلية، لا عدسة عدوٍّ خارجي.
اليوم، بينما تستمر التحقيقات في ملابسات التسريب، تتراجع القضية الأصلية إلى الخلف، ويُمحى من المشهد المعتقل الذي تم التنكيل به. لكن تلك الجريمة ما زالت وصمة عميقة في سجل الجيش. ففي رسالة استقالتها، أوضحت يروشالمي أنها سمحت بتسريب الشريط بدافع مواجهة ما وصفته بحملة تضليل ضد النيابة العسكرية، معتبرة أن الواجب الأخلاقي في كشف الحقيقة لا يقل أهمية عن الحفاظ على السرية المؤسسية.
هذا البعد القانوني والأخلاقي يكتسب بعدا دوليا جديدا مع تحرّك محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، التي شددت في بياناتها الأخيرة على ضرورة أن يكون في إسرائيل جهاز قضائي مستقل قادر على محاسبة المتورطين في انتهاكات جسيمة ضد الفلسطينيين أثناء الحرب.
المدعية العامة للمحكمة ذكّرت بأن الاختصاص الدولي لا يسقط إلا إذا أثبتت الدول نفسها أنها تحاكم الجناة بصدق وشفافية – وهي رسالة فهمتها تل أبيب جيدا، إذ تدرك أن فشلها في إنفاذ العدالة داخليا قد يفتح الباب أمام مساءلات دولية قاسية.