رقصة الخليج

Loading

استقبال الرئيس الصيني شي جين بينغ في الرياض عام 2022 بحرس الشرف والألعاب النارية، رآه كثيرون في واشنطن لحظة رمزية تُجسد تحوّلا في موازين القوة. لكن بالنسبة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لم يكن الأمر خيانة، بل توازنا مدروسا.

في أنحاء الخليج، من الدوحة إلى أبوظبي، لم تعد الدول الخليجية تختار بين القوى الكبرى، بل توازن علاقاتها مع الطرفين.

على مدى عقود، اعتمدت دول الخليج على الولايات المتحدة لتأمين مظلة دفاعية وضمان التسليح. غير أن السنوات العشر الماضية جعلت من الصين الشريك الاقتصادي الذي لا غنى عنه: زبونا للنفط والغاز، وبانيا للموانئ والمدن الذكية، وممولا لطموحات ما بعد النفط.
هذا الازدواج أصبح السمة المميزة لدبلوماسية المنطقة، إذ تسعى القيادات الخليجية إلى تحقيق التحديث مع الحفاظ على الروابط الأمنية، مستفيدة من موقع تفاوضي غير مسبوق من الاستقلالية.

والنتيجة رقصة دبلوماسية معقدة: القواعد الأميركية للحماية، والصفقات الصينية للازدهار الاقتصادي.

رؤى متنافسة

بالنسبة لواشنطن، لا يزال الخليج ركيزة أساسية في استراتيجيتها العالمية. تنتشر القوات الأميركية في قاعدة “العيديد” في قطر وقاعدة “الظفرة” في الإمارات، فيما تتجاوز مبيعات السلاح للمنطقة 20 مليار دولار سنويا. وفي المقابل، تتوقع واشنطن من شركائها الخليجيين التوافق معها استراتيجيا في ملفات الطاقة وإيران وسباق التكنولوجيا العالمي.

أما الصين فتنتهج طريق الاستثمار بدل الانتشار العسكري. تشتري النفط السعودي والغاز القطري المسال، وتبني بنية تحتية تتجاوز قيمتها 120 مليار دولار في أنحاء الخليج. وتتغلغل الشركات الصينية كذلك في قطاعات اللوجستيات والموانئ والبنية الرقمية، ما يربط اقتصادات الخليج بشبكة “الحزام والطريق” التي تقودها بكين.

واليوم تتنافس القوتان،  ليس فقط على النفط والأسواق، بل على النفوذ في التكنولوجيا والدبلوماسية، ما يدفع القادة الخليجيين إلى ما يسميه أحد المحللين بـ”تعدد المهام الاستراتيجية”.

وفي هذا المشهد الجديد، لم تعد العواصم الخليجية تقيم في هامش التنافس الدولي، بل أصبحت مسرحا لأهم فصوله.

السعودية: اللعب على طرفي الرقعة

في إطار “رؤية 2030″، تسعى السعودية إلى جذب المستثمرين وتعزيز نفوذها الاقتصادي. وأثناء زيارة شي جين بينغ، وُقّعت صفقات بقيمة 50 مليار دولار، شملت مشاريع للطاقة المتجددة والاقتصاد الرقمي. وتشارك شركات صينية في بناء مشروع “نيوم”، المدينة المستقبلية الضخمة. وفي الوقت نفسه، تستضيف الرياض مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، وتواصل تحديث قواتها عبر التكنولوجيا الدفاعية الأميركية.

ومع ذلك، لا تزال المملكة تعتمد على واشنطن في أنظمة الدفاع الصاروخي والتعاون الاستخباراتي، وتسعى إلى إبرام اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة بينما تُعزز علاقاتها مع الصين وباكستان.

ترى المحللة إليونورا أرديماجني أن هذه التحركات “تعزز ولا تستبدل الضمانات الأمنية الأميركية”.

بالنسبة للرياض، تكمن المهارة في انتزاع أفضل ما لدى الطرفين دون الوقوع في فخ أيٍّ منهما. ولهذا التوازن قيمة دبلوماسية أيضا، إذ أظهرت المصالحة السعودية – الإيرانية التي توسطت فيها الصين عام 2023 استعداد الرياض لمنح بكين دورا إقليميا، مع استمرار اعتمادها على القوة الأميركية لاحتواء طموحات إيران عند الحاجة.

الإمارات: تعدد التحالفات

لم تُتقن أي دولة خليجية فن الموازنة مثل الإمارات. فقد طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وانضمت إلى تكتل “بريكس” إلى جانب الصين وروسيا، وتتعامل تجاريا بحرية مع الغرب وآسيا.

وعندما حذّرت واشنطن أبوظبي من استخدام شبكة “هواوي” للجيل الخامس، أوقفت الإمارات صفقة شراء مقاتلات F-35 الأميركية، في رسالة هادئة تعبّر عن استقلال القرار.

ورأى مسؤولون إماراتيون أن الخطوة تؤكد أن السيادة في اختيار التكنولوجيا هي جزء من الأمن القومي ذاته.

تستضيف الموانئ الإماراتية في الوقت نفسه محطة “كوسكو” الصينية ومشاريع أميركية مثل “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”.

يقول روبرت موجيلنيكي من معهد دول الخليج العربي في واشنطن: “الإماراتيون يبنون خيارات متعددة. المسألة تتعلق بتقليل الأعباء التي ترافق الارتباط بقوة عظمى واحدة”.

اقتصاديا، تنوع الإمارات مذهل: فقد بلغ حجم تجارتها غير النفطية 1.7 تريليون درهم عام 2025 (حوالي 464 مليون دولار)، بزيادة تقارب 25 في المئة على أساس سنوي. وتجذب مناطقها الحرة الاستثمارات من وادي السيليكون ومن الشركات التقنية الصينية معا، ما يعزز موقعها كاقتصاد جسر لا كدولة تابعة.

مبدأ الموازنة

في عموم الخليج، تحوّل هذا النهج القائم على “الشراكة دون الاصطفاف” إلى عقيدة إقليمية.

وقد جلب مليارات الدولارات من الاستثمارات ووسع الحضور الدبلوماسي – إذ باتت العواصم الخليجية تتوسط في النزاعات من غزة إلى أوكرانيا. وتستضيف الدوحة محادثات غير مباشرة بين واشنطن وطهران، بينما تضع أبوظبي نفسها كمركز محايد للطاقة واللوجستيات وسط الاضطرابات العالمية.

لكن لهذه السياسة ثمن. فقد بدأ المسؤولون الأميركيون يحذرون حلفاءهم من تعميق الروابط العسكرية والتقنية مع الصين، في حين قد تتوقع بكين يوما ما ولاءً في حال وقوع أزمة تتعلق بتايوان.

حتى مشاريع البنية التحتية مثل مبادرة “الحزام والطريق” أصبحت تحت مجهر واشنطن.

يقول موجيلنيكي: “كانت الولايات المتحدة تتجاهل مثل هذه الصفقات، لكن الأمور تتغير – ما لم يكن خطا أحمر من قبل قد يصبح كذلك الآن”.

ويرى محللون أن هذا التشدد الجديد في واشنطن يعكس قلقا من فقدان النفوذ: فالتعاون الأمني لا يزال لا يُضاهى، لكن النفوذ الاقتصادي لم يعد مضمونا.

الطريق إلى الأمام

قد يكون الحبل المشدود الخليجي قابلا للاستمرار – إلى أن يتعذر ذلك. فقد انضمت الإمارات بالفعل إلى مجموعة “بريكس”، في إشارة إلى استعدادها للتعامل مع نظام عالمي ما بعد الهيمنة الأميركية. أما السعودية، فتحافظ على حذرها وتُبقي طلب عضويتها معلقا. ويقول موجيلنيكي إن “الرياض لا تريد إحداث اضطراب”.

وعلى المدى القريب، ستواصل الدولتان استثمار التنافس بين القوتين، الأميركية والصينية، لتحقيق مصالحهما. لكن مع تصاعد التوترات العالمية – من بحر الصين الجنوبي إلى الخليج العربي – قد تضيق مساحة الحياد. وحين تطلب واشنطن أو بكين ولاء واضحا، سيواجه التوازن الخليجي الدقيق أصعب اختبار له.