![]()
بعد أربعة عشر عاما على سقوط معمر القذافي، لا تزال الأموال الليبية المجمدة مطمورة تحت طبقات من العقوبات والبيروقراطية وانعدام الثقة، في حين يعاني المواطن الليبي أزمات الافتقار إلى أبسط مقومات العيش الأساسية كالوقود والكهرباء والخدمات العامة.
اليوم، أعادت مبادرة جديدة يقودها البرلمان الليبي إحياء النقاش في الأمم المتحدة، إذ تطالب بتعيين جهة تدقيق مالية مستقلة لمراجعة جميع الأصول الليبية المتناثرة حول العالم.
يرى مؤيدو الخطوة بأنها قد تكشف سوء الإدارة وتعيد الشفافية إلى أحد أكثر الملفات المالية غموضا في التاريخ الحديث، بينما يحذّر منتقدون من أنها قد تعمّق الانقسامات وتفجّر نزاعات قانونية، قبل الإجابة على السؤال الأهم: من يملك، في دولة منقسمة، حق استعادة عشرات المليارات؟.
في عام 2011، تلت السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة سوزان رايس، في جلسة طارئة لمجلس الأمن، نص القرار 1970، الذي شكل نقطة تحول في قضية الأموال الليبية المجمدة في الخارج.
في تلك الجلسة، تقرر تجميد الأموال والأصول، وفرض عقوبات على نظام القذافي. وتحول القرار الذي بدا إجراء مؤقتا آنذاك إلى عقدة سياسية واقتصادية ذات بعد دولي.
مبادرة جديدة في الأمم المتحدة
داخل ليبيا، أخفقت محاولات حكومات متعاقبة في الشرق والغرب في فك عقدة الأصول المجمدة، أو إدارة عوائدها بشكل مستقل. أحدث محاولة في هذا السياق، مذكرة رسمية قدمتها، الشهر الماضي، لجنة مكلفة من مجلس النواب ببنغازي للأمم المتحدة.
تطالب المذكرة، بحسب اللجنة، بمراجعة الأصول الليبية المجمدة في 37 مصرفا حول العالم منذ 2011، وتحديد وضعها القانوني بدقة.
وتدعو أيضا إلى مساءلة الدول والمؤسسات المالية التي تدير هذه الأموال بشأن “شبهات سوء إدارة”، تشمل استثمارات أو إقراضات غير مصرح بها، وخصومات إدارية مبالغ فيها من عوائد تلك الأصول.
رئيس لجنة التخطيط والمالية والموازنة العامة في مجلس النواب، وهو أحد أعضاء لجنة التحقيق ومتابعة الأصول، عمر تنتوش، قال لـ”الحرة” إن اللجنة طالبت في نيويورك مجلس الأمن ولجنة العقوبات، بتبني قرار ينص على تعيين مكتب تدقيق مالي عالمي ذي خبرة، إسوة بما حدث مع مصرف ليبيا المركزي، لمراجعة جميع الأرصدة المجمدة في جميع البنوك منذ 2011 وحتى الآن”.
وأضاف تنتوش قوله:”طالبنا أيضا بتحضير تقرير نهائي يرفع الى مجلس الأمن ولجنة العقوبات، حتى نعلم تماما أين أموالنا، وما هي قيمتها، وهل تم سوء استعمالها، وإذا ترتب عنها أي أرباح غير مشروعة ترجع لمجموع الأرصدة المجمدة، وقد وجدنا تجاوبا كبيرا من لجنة العقوبات، والدول الصديقة”.
في يناير من العام الجاري، أصدر مجلس الأمن القرار 2769 الذي عدل نظام العقوبات على ليبيا وسمح جزئيا للمؤسسة الليبية للاستثمار (LIA)Libyan Investment Authority) – الجهة السيادية المسؤولة عن هذه الأموال – بإدارة جزء من أصولها المجمدة في الخارج، مع الإبقاء على التجميد الكامل لمعظمها.
لكنّ تنتوش كشف أن المؤسسة الليبية للاستثمار تواصلت مع البنوك التي تحتجز هذه الأموال في الدول المعنية، ووجدت تباطؤا وتلكؤا في تنفيذ القرار، بحجة عدم وضوحه وآليات تفسيره. وأضاف أن اللجنة طالبت مجلس الأمن ولجنة العقوبات بـ”تبني مذكرة شارحة وإصدارها في أسرع وقت ممكن، توضح لجميع البنوك والدول التي لديها أرصدة مجمدة كيفية تطبيق القرار 2769 بما يضمن حقوق ليبيا، والسماح بعمليات استثمار مضمونة Very Low Risk Ventures ، حتى لا تتآكل هذه الأرصدة”.
المحامي محمد بن شعبان، الذي يمثل أمام المحاكم العليا في إنكلترا وويلز وأيرلندا الشمالية، أعرب للـ”الحرة” عن دعمه لهذه المبادرة، لكنه أبدى بعض التحفظات.
“مراجعة تحت إشراف الأمم المتحدة ستساعد في توضيح حجم ومواقع وطريقة إدارة الأصول المجمدة، والحفاظ على قيمتها، وتعزيز مصداقية ليبيا على الصعيد الدولي. ومع ذلك، فإن الانقسامات الداخلية قد تُشكك في شرعية الجهود التي يقودها مجلس النواب”، يقول بن شعبان.
إلى جانب الانقسامات الداخلية، يشير بن شعبان إلى إشكالية قانونية أخرى، وهي تضارب الصلاحيات مع الأنظمة القضائية في الدول المضيفة.
“كثير من الأصول الليبية مجمّدة بموجب قرارات وطنية تنفذ إجراءات مجلس الأمن، وبالتالي فإن إنشاء آلية جديدة تديرها الأمم المتحدة قد يتعارض مع تلك الأنظمة الوطنية، أو يتطلب تعديلات تشريعية موازية في تلك الدول”، يضيف.
وشدد بن شعبان، أيضا، على المخاطر المرتبطة بالسياق القانوني والسياسي الأوسع. هو يرى أن “السماح بإدارة الأصول المجمدة أو استثمارها حتى تحت إشراف الأمم المتحدة، قد يُنظر إليه كخطوة تُضعف مبدأ العقوبات الدولية، وقد تثير اعتراض بعض الدول التي تخشى أن يُشكل ذلك سابقة يمكن أن تُطبق لاحقًا على أنظمة عقوبات أخرى مثل روسيا أو إيران”.
أموال مخفية بين القارات
في أكتوبر 2017، أنشأ المجلس الرئاسي خلال حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج مكتبا خاصا في طرابلس باسم “استرداد أموال الدولة الليبية وإدارة الأصول المستردة” (LARMO)، لمتابعة الأموال المنهوبة في الخارج والتواصل مع الحكومات والمؤسسات المالية لاستردادها.
ومع تولي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة السلطة عام 2021، انقسمت تبعية المكتب عمليا بين المجلس الرئاسي والحكومة، ما عمّق الخلاف حول الصلاحيات والمهام.
يقول عمر تنتوش، عضو لجنة متابعة الأصول في مجلس النواب، إن المكتب يختلف عن لجنة الأرصدة المجمدة، فمهمته تتعلق بالأموال المنهوبة التي أخفاها أعوان النظام السابق.
وفي هذا السياق، كشف المحلل الاقتصادي عبد الله الأمين لـ”الحرة” أن نحو 60 مليار دولار أُخفيت في الخارج خلال فترة الحصار على ليبيا في التسعينيات، مشيرا إلى تنافس بين شخصيات نافذة للسيطرة على هذه الثروة. وأضاف أن الصراع على هذه الأموال فجّر مواجهات سياسية في طرابلس، ودفع مدير المكتب، محمد المنسلي، إلى الاختفاء مؤقتا خشية على سلامته، قبل أن توقفه هيئة الرقابة الإدارية بتهم “تنفيذ أعمال غير مصرح بها وحيازة جنسية مزدوجة”.
وقال الأمين إن بعض الأموال نُقلت إلى حسابات خاصة أو حُوّلت إلى ودائع ذهبية تحتفظ بها حكومات أفريقية، بينما أُعيد توظيف جزء منها في أدوات مالية دولية لتجنّب العقوبات المفروضة على نظام القذافي.
وأوضح أن احتجاز المنسلي جاء بعد لقاءات في واشنطن مع مسؤولين في وزارات الخارجية والعدل والخزانة الأميركية لبحث استعادة الأصول الليبية المهربة، مؤكدا أن الملف ما زال يكتنفه الغموض.
وكان المبعوث الأميركي السابق إلى ليبيا جوناثان واينر قد صرّح سابقا بأن مكتب استرداد الأموال “حدّد عشرات المليارات من الدولارات من الأصول المسروقة، بما في ذلك الأسهم والسندات والعقارات والمجوهرات والذهب، المنتشرة في أفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية”، بالتعاون مع هيئات دولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ووكالات إنفاذ القانون.
وفي المقابل، انتقد الأمين غياب الشفافية في عمل المكتب، قائلا إن موقعه الإلكتروني لا يزال في مرحلة التكوين، والمحتوى المعروض عام ويخلو من المعلومات الفنية، ولا توجد تقارير منشورة توضح النتائج أو الصفقات التي تم التفاوض بشأنها.
“صفقة سرية”
في ربيع عام 2025، ذكرت صحيفة Middle East Eye أن محادثات غير معلنة جرت بين ممثلين عن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومسؤولين من حكومة طرابلس، تناولت إمكانية رفع التجميد عن جزء من الأصول الليبية المحتجزة في الخارج منذ عام 2011.
وأشارت نيويورك تايمز في تقرير لاحق إلى أن لقاءً عُقد في الدوحة بين مستشار الأمن القومي الليبي إبراهيم الدبيبة والمبعوث الأميركي مسعد بولوس، المقرب من ترامب، طُرحت خلاله فكرة توظيف جزء من هذه الأموال في مشاريع تنفذها شركات أميركية داخل ليبيا.
وبحسب ما أورده التقرير، كان الهدف من المقترح تحويل جزء من الأصول المجمدة إلى استثمارات ذات منفعة متبادلة، في إطار تفاهم سياسي غير معلن.
المحلل الاقتصادي عبد الله الأمين رأى أن مثل هذه الأفكار قد تُحوّل الأموال الليبية من أداة وطنية إلى أداة مساومة سياسية، ما يعرّضها لمخاطر قانونية ويهدد مصالح الدولة طويلة الأمد. وأضاف أن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد إطار دولي شفاف يسمح باستخدام الأصول لأغراض تنموية دون الإخلال بمبدأ العقوبات الدولية.
ورغم نفي المؤسسة الليبية للاستثمار رسميا ما وصفتها “الادعاءات الإعلامية المتعلقة بالأصول الليبية المجمدة في الخارج،” فإن مجرد تداول تلك الأنباء أثار جدلا حول حدود استخدام الأصول السيادية واحتمال توظيفها كورقة ضغط في العلاقات الخارجية.
في المقابل، شددت حكومة الشرق برئاسة أسامة حماد على أن عبد الحميد الدبيبة لا يملك صلاحية إدارة هذا الملف، مؤكدة أن أي خطوة تتعلق بالأصول المجمدة يجب أن تتم بإشراف المؤسسة الليبية للاستثمار وبموافقة السلطات الشرعية، حفاظا على الشفافية والمساءلة ومنعا لاستغلالها لأغراض سياسية داخلية أو خارجية.
الأقفال والمفاتيح
منذ فرض مجلس الأمن الدولي تجميدا شاملا على الأصول الليبية عام 2011، خاضت ليبيا سلسلة طويلة من النزاعات القانونية في محاكم أوروبية ودولية لاسترداد أموالها أو رفع القيود عنها.
أبرز هذه القضايا كانت في لندن، حيث خسرت المؤسسة الليبية للاستثمار (LIA) دعوى ضد بنك “غولدمان ساكس” عام 2016 بقيمة 1.2 مليار دولار، بعدما رفضت المحكمة مزاعم استغلال البنك لقلة خبرة الصندوق.
وفي المقابل، حققت المؤسسة نجاحا جزئيا عام 2017 بعد تسوية مع “سوسيتيه جنرال” الفرنسي بنحو 963 مليون يورو، أعادت بعض الخسائر التي تعود إلى ما قبل 2011.
لاحقا، أنهت محكمة بريطانية في 2020 وصايتها القضائية على بعض أصول المؤسسة، ما أعاد لها السيطرة القانونية على جزء من الأموال الليبية. أما في فرنسا، فقد ألغت محكمة باريس عام 2023 أمرا بحجز 360 مليون دولار، معتبرة أن الحجز استند إلى حكم تحكيمي باطل، وهو ما اعتُبر انتصارا قانونيا مهما لليبيا.
ومثّلت قضية “يوروكلير” أطول نزاع مرتبط بالأموال المجمدة الليبية، إذ بقيت أرصدة بمليارات اليوروهات مجمّدة منذ 2011 بسبب قرارات قضائية متكررة. تتعلق القضية بأصول ليبية محفوظة في بنك Euroclear في بروكسل، ضمن قرارات الأمم المتحدة لتجميد أصول ليبيا، وشملت الحسابات أموال المؤسسة الليبية للاستثمار بقيمة تقارب 16 مليار يورو.
وفي يناير 2025، أصدرت محكمة استئناف بروكسل قرارا برفع معظم أوامر الحجز، ما أعاد لليبيا القدرة على التصرف في جزء من هذه الأموال، رغم أن الأصول لا تزال خاضعة لتجميد الأمم المتحدة. وأثارت القضية جدلا واسعا حول حقوق ليبيا في إدارة أصولها المجمدة، خاصة بعد تقارير عن فقدان مبالغ كبيرة وصرف فوائد من هذه الأصول.
يقول المحامي محمد بن شعبان إن الحفاظ على قيمة الأصول كان من الأهداف المعلنة لعقوبات تجميد الأموال المفروضة على ليبيا، لكن التجميد يؤدي فعليا إلى فقدان قيمتها، ما يستلزم إدارة استثمار نشطة وإعادة استثمار، ليس بالضرورة لتحقيق الربح، بل لتقليل خسارة رأس المال.
ويضيف: “المؤسسة الليبية للاستثمار تكبدت خسائر تقارب 200 مليون جنيه إسترليني في فرص ضائعة على ثلاثة عقارات في لندن وحدها، و23 مليون دولار في فوائد سلبية على الأرصدة النقدية، وأكثر من 4 مليارات دولار في انخفاض قيمة الأصول على مستوى العالم”.
وبين من يرى أن خيار التحكيم أفضل من التقاضي التقليدي، يوضح بن شعبان أن التحكيم قد يبدو الخيار الأفضل، لأنه يمنح ليبيا حق اختيار المحكمين ووضع متطلباتها الإجرائية. لكن المشكلة وفقا لبن شعبان تكمن في أن الخصم، المعارض لليبيا، يجب أن يوافق على الدخول في عملية التحكيم، إذ يعتمد التحكيم على الموافقة المتبادلة، بخلاف التقاضي الذي تفرضه محاكم الدولة.
“نظريا، يمكن لليبيا التقدم إلى محكمة العدل الدولية للفصل بينها وبين الدول المسماة، لكن استجابات الدول قد تختلف، وجميعها ستلتزم في النهاية بقرارات مجلس الأمن، ما يجعل نجاح هذه الخطوة أمام المحكمة الدولية أمرا غير محتمل. أما الخيار القضائي الأكثر جدوى فهو التقاضي عبر المحاكم المحلية في كل دولة تحتفظ بالأصول، حيث يجب على ليبيا إثبات أن أصولها فقدت قيمتها نتيجة التطبيق الخاطئ للعقوبات الدولية من قبل كل دولة”.
ويبقى مصير الأموال الليبية المجمدة منذ 2011 معلقا بين نزاعات قانونية معقدة، وصراعات سياسية داخلية لا تنتهي، وتدخلات دولية لا تهدأ. الأقفال كثيرة، والمفاتيح مبعثرة بين عواصم العالم.