“اختراع عثماني”

Loading

في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يتناول الكاتب والصحفي إبراهيم عيسى سؤالا جوهريا: هل يمكن للمؤسسة الدينية أن تقود إصلاحا دينيا؟ ويؤكد أن الإجابة الحاسمة هي “لا”.

بالنسبة لعيسى، المؤسسة الدينية، بطبيعتها وتركيبتها التاريخية، وُجدت لمعارضة التغيير، وخدمة السلطة. يؤكد هو  أن كل محاولات الإصلاح في التاريخ الحديث جاءت من خارج المؤسسة الدينية، سواء عبر مفكرين مستقلين أو عبر الدولة الرسمية نفسها.

النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة:

هل يمكن للمؤسسة الدينية، في أيٍّ من الدول العربية أو ذات الغالبية المسلمة، أن تقود إصلاحا دينيا؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا. ولو أن هذه المؤسسة قادت فعلاً إصلاحا دينيا، لكان ذلك كافياً ومؤثراً إلى حدٍّ بعيد.

لكن الإجابة عن هذا السؤال هي “لا قاطعة. لا يمكنها ذلك أبدا، فذلك ببساطة مستحيل.

فمجرد أننا نصفها ونطلق عليها اسم “المؤسسة الدينية” يعني بالضرورة أنها لا تصلح أن تكون عنواناً لإصلاح أو تغيير أو تجديد ديني.

ولإدراك سبب هذه الاستحالة، علينا أن نعود إلى التاريخ، إلى الماضي البعيد – ذلك الماضي الذي، للأسف، لا نزال في عالمنا العربي والإسلامي أسرى له، نعيش في ظله أكثر مما نعيش في حاضرنا.
كأننا لا نحيا إلا بين شواهد القبور، وكأن حياتنا لم تغادر بعد مقابر التاريخ.

اختراع عثماني

يجب أن نعود إلى الجذور التاريخية للمؤسسة الدينية الرسمية كما نعرفها اليوم. فالمؤسسة الدينية الإسلامية، بالشكل الذي نراه الآن، هي في الأصل اختراع عثماني – ابتكار بشري لا أصل ديني له في الكتب السماوية.

القرآن يذكر “أهل الذكر. تقول الآية: “فاسألوا أهل الذكر”. وقد فسّر البعض “أهل الذكر” بأنهم علماء الدين. لكن “المؤسسة الدينية”، بصيغتها المنظمة لم تكن موجودة في الأصل؛ فهي ظاهرة لاحقة للدين نفسه. فالدين جاء أولاً، ثم نشأ على ضفافه “العلم الديني”، الذي تطوّر لاحقاً ليأخذ شكل مؤسسة.

ومع مرور الوقت، تحوّل “العلم الديني” إلى مؤسسة رسمية قائمة في كنف الدولة، وهو ما لم يكن معروفاً قبل العصر العثماني. صحيح أن قضاة وشيوخ المذاهب في مختلف الأوقات – الحنفية أو الحنبلية أو الشافعية أو المالكية – كانوا موجودين منذ القدم، لكن الشكل المؤسسي الرسمي المرتبط بالسلطة السياسية هو ابتكار عثماني خالص.

كانت الدولة العثمانية بحاجة إلى شرعنة سياساتها وإيجاد غطاء ديني لصراعاتها، خاصةً وأنها كانت تخوض حروباً ضد دول وشعوب مسلمة.

فكيف يمكن تبرير غزو بغداد أو دمشق أو مصر، وكلها بلاد مسلمة؟ كان الحل في إيجاد شرعية دينية تُبرر تلك الأفعال، وذلك من خلال إصدار فتاوى رسمية تمنح الغزو غطاءً دينياً.

ولأن هذه الفتاوى كان يجب أن تصدر بما ينسجم مع رغبة الدولة، فقد أُنشئت هيئة دينية رسمية تتولى هذه المهمة. وهنا ظهر لأول مرة منصب شيخ الإسلام – منصب رسمي يُعيَّن من قبل السلطان ليكون ممثلاً للإسلام ومصدراً للفتاوى التي تمنح السلطة شرعيتها.

ومع مرور الوقت، ظهرت دور للإفتاء، وتحوّل الإفتاء إلى “مهنة” أو “وظيفة”، ثم تأسست هيئات العلماء الكبار التي صارت جزءاً من البنية الرسمية للدولة.

كانت هذه كلها ابتكارات عثمانية هدفها تشكيل مؤسسة دينية رسمية تشبه المؤسسة الدينية المسيحية. وقد خدم هذا الابتكار هدفين رئيسيين: أولاً، مواجهة الغرب المسيحي؛ وثانياً، إضفاء الشرعية على الغزو العثماني لشعوب عربية ومسلمة.

إلى جانب ذلك، كانت هناك منافسة مع الدولة الصفوية الشيعية، ما دفع العثمانيين إلى إنشاء مؤسسة دينية تكون مرجعاً يبرر سياسات الحاكم ويمنحها المصداقية الدينية المطلوبة.

 ضد كل إصلاح!

للتحقق من طبيعة المؤسسة الدينية، علينا أن نراجع سجلها في مواجهة التحديث والإصلاح. لنعد قليلا إلى التاريخ: المطبعة اخترعت في القرن الخامس عشر، أي في سنوات الـ1400. فمتى وافقت الدولة العثمانية على طباعة المصحف؟

المصحف لم تتم طباعته فوراً. كانت الطباعة محرمة ومجرمة. أصلاً الطباعة بالحروف العربية كانت ممنوعة في الدولة العثمانية. ثم بعد ذلك، مُنعت طباعة الكتب الدينية، ومُنعت بطبيعة الحال طباعة المصحف. المصحف طُبع بعد 400 سنة على ظهور المطبعة.

والسؤال هو: لماذا هذا التأخير الرهيب؟

السبب أن المؤسسة الدينية كانت ترفض فكرة المطبعة من أساسها، ثم رفضت لاحقاً فكرة طباعة المصحف تحديداً. فمنذ عام 1492 ميلادية، تاريخ ظهور الطباعة، لم يُسمح بطباعة المصحف إلا في عام 1877. وحتى في مصر، أصدر الأزهر في بدايات عصر الطباعة فتاوى تُحرّم طباعة الكتب الشرعية، مفضلاً أن تظل تُنسخ باليد كما كان الحال في العصور القديمة.

حتى في العديد من الإصلاحات الاجتماعية، كانت المؤسسات الدينية على الدوام في موقع المعارض. الأزهر مثلا، بوصفه المؤسسة الدينية الأبرز في مصر، عارض إلغاء العبودية وتحريم الرق، كما رفض إلغاء الجزية المفروضة على المواطنين المسيحيين واليهود.

كذلك وقف الأزهر ضد فوائد البنوك وضد البنوك نفسها، وحرّم الفقهاء التأمين على الحياة. ومع كل تطور أو مظاهر حداثة جديدة، كان موقف المؤسسة الدينية هو الرفض والممانعة – من نقل الأعضاء والدم، إلى استخدام القطار والإذاعة وحنفية المياه، إذ وُصفت جميعها في بداياتها بأنها محرمة.

ولعل أحد أوضح الأمثلة على معارضة المؤسسة الدينية للإصلاح يتجسد في حالة الغضب المستمرة تجاه الإمام محمد عبده، لأن محمد عبده هو الإمام الذي أباح فوائد البنوك. محمد عبده أباح أيضاً ارتداء الملابس الأوروبية، وأباح التأمين.

الإصلاح دائما يأتي من الخارج

إذا كانت المؤسسة الدينية الرسمية تمتلك تاريخاً طويلاً من مقاومة التغيير، فالسؤال هو: من أين يأتي الإصلاح إذن؟

في مختلف التجارب، كان الإصلاح يحدث عندما يتغلب الجناح الرسمي في السلطة على المؤسسة الدينية ويفرض إرادته عليها.

في السعودية مثلا، جاء الإصلاح حديثا على يد محمد بن سلمان. لقد تغلّب جناح الدولة على المؤسسة الدينية وأجبرها على الإصلاح، أجبرها بالمعنى الحرفي، إذ لم يحدث قط أن بادرت مؤسسة دينية رسمية إلى إصلاح ذاتي من داخلها.

ما حدث في السعودية مؤخرا فعله من قبل المؤسس الكبير محمد علي في مصر. محمد علي كان يريد أن يبني دولة حديثة. فماذا فعل؟ قام بإزاحة كل المؤسسة الدينية جانبا. لم يقدم للمؤسسة الدينية أي نوع من أنواع الطاعة، ولا طلب رأيها أصلاً. لقد كانت أول خطواته تحييد أو تهميش هذه المؤسسة. بعدها، قام بخلق نخبة مدنية لكي تقود الإصلاح.

نحن إذن أمام مشهد يؤكد لنا أن الحقيقة الثابتة هي أن الإصلاح الديني يأتي دائماً من خارج المؤسسة الدينية.

ليس حقيقياً على الإطلاق أن هناك مؤسسة دينية، من تركيا إلى المغرب، قادت يوماً من الأيام إصلاحاً، أو اجتهاداً، أو تغييراً، أو تنويراً.

الإصلاح والتنوير يأتيان دائما من خارج هذه المؤسسة. التغيير يأتي سواء عبر مفكرين كبار وعقول عظيمة، أو عبر الدولة نفسها عندما تتبنى مفهوماً مدنياً للدولة والحكم. أما إذا عدنا وسألنا السؤال الأساسي: هل يمكن للمؤسسة الدينية أن تقوم بعمليات إصلاح؟ الإجابة هي دائما: لا!