اختبار السلطة الفلسطينية في غزة

Loading

يبدو أن طريق عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، الذي مزقته الحرب، سيكون محفوفا بالمتطلبات الدولية الشاقة.

قد يكون أكثر المتطلبات الحاحا ذلك الصادر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أدرج “إصلاح السلطة الفلسطينية” ضمن شروط نجاح خطته لإدارة قطاع غزة بعد أن نجحت إدارته في تحقيق وقف إطلاق نار تاريخي بين إسرائيل وحركة “حماس”. إلا أن نظرة متعمقة في هذا الشرط، من خلال العدسة التي يوفرها المعنيون من داخل المشهد السياسي الفلسطيني، تكشف أن تحرك السلطة باتجاه توقيف وملاحقة شخصيات سياسية على خلفية قضايا مالية، ليس بالضرورة نابعاً من إرادة داخلية للإصلاح، بل هو خاضع لضغوط خارجية قد لا تنجح بالضرورة في فرضه.

للدلالة إلى حجم الفساد في الإدارة الفلسطينية، ومستوى “القرف” الخليجي منه، ينقل الباحث الفلسطيني في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى غيث العمري عن مسؤول إماراتي رفيع، قوله انه “قد يكون من الأفضل إرسال الأموال إلى حساب مصرفي في سويسرا بدلا من المخاطرة بإساءة استخدامها من قبل السلطة، في إشارة الى الحسابات المصرفية التي ينقل مسؤولون فلسطينيون أموالهم إليها في الخارج، في عمليات مشبوهة”.

هذا التصريح يعكس، بحسب العمري، سياسة وموقفاً من بعض الدول الخليجية، خصوصاً الإمارات والسعودية. ترى هذه الجهات التي تمتلك القدرة على التمويل، أن دفع أموال لسلطة متداعية مالياً من شأنه أن يقوض مصداقيتهم الإقليمية، خصوصاً أنهم يرون في إصلاح السلطة سبيلاً لتوفير غطاء شرعي لها، لقبول مشاركتهم في أي ترتيبات مستقبلية في غزة، والأهم بالنسبة إلى هذه الجهات، حرمان حركة “حماس” من الاستئثار بتمثيل الشعب الفلسطيني، وضمان بقاء فكرة الكيان السياسي الواحد بين الضفة وغزة، حتى لو كان رمزياً، وهو ما يُبقي حل الدولتين مطروحاً.

في مواجهة هذه الضغوط، تحركت السلطة الفلسطينية عبر حملة مكافحة فساد شملت مسؤولين رفيعي المستوى، وضع بعضهم في الإقامة الجبرية، وأحيلت ملفات آخرين إلى القضاء. لكن المراقبين يرون في هذه التحركات مجرد “إشارات شكلية” تهدف إلى إرضاء اللاعبين الرئيسيين المتمثلين بالولايات المتحدة وأوروبا والشركاء الخليجيين.

يصف سياسي فلسطيني تحدثت إليه “الحرة” طالبا عدم ذكر اسمه، هذه الإجراءات بأنها “غير جوهرية”، و”غالبا ما تتشابك مع تصفية الحسابات السياسية الداخلية”. ويضيف بأن السلطة “تستخدم هذه التحركات لخلق وهم الامتثال بينما تتجنب التغيير الهيكلي الحقيقي، خاصة وأن الرأي العام الفلسطيني يرى أن المشكلة متجذرة “من القمة”، ويعني بذلك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

ويرى السياسي الفلسطيني، الموجود في الضفة الغربية، أن هذه الإجراءات تهدف في الأساس إلى إرسال رسائل خارجية، لإعطاء انطباع بأن السلطة تعمل على هذا الملف، لكنه يعتقد أن هذه التوقيفات ليست في الواقع جزءاً من خطة متكاملة وواعية لإرسال رسالة إصلاح لجهات خارجية مثل الإدارة الأميركية، بل أن توقيت إخراج مثل هذه القضايا وبهذا العمق، كان مجرد صدفة.

أما عن عمليات الاعتقال التي تقوم بها السلطة،  فيصفها المسؤول الفلسطيني بأنها “اعتقالات سياسية” مدفوعة بغضب السلطة من أي تحرك يتم من دون رضاها.

تاريخيا، كان هناك نموذج واحد للإصلاح الجاد، بحسب غيث العمري، تجسد في فترة رئيس الوزراء سلام فياض (2007-2013). فقد أجرى فياض إصلاحات شاملة للحوكمة، وبناء المؤسسات، والشفافية المالية، وتحديث الخدمات الأمنية. لكن هذا المسعى جرى إحباطه وإفشاله من قبل القيادة الحالية، “لأنه هدد شبكة المحسوبيات وطالب بعمل جدي على الأمن والإصلاح”.

هذا “الافشال” كان بمثابة استراتيجية لدى الرئيس محمود عباس، كما يشرح العمري، فقد قام “بتدمير كل بديل ممكن”، مقصياً أي شخص يحاول بناء قاعدة شعبية أو تنظيمية، بما في ذلك محمد دحلان وناصر القدوة وسلام فياض. وقد أدت هذه الاستراتيجية المتعمدة إلى خلق “فراغ” قيادي حاد يهدد قدرة السلطة على توليد قيادة جديدة وإدخال دم جديد إليها.

يأتي مطلب الإصلاح بالتزامن مع بدء النقاشات حول إعادة إعمار غزة، والتي تسير في اتجاهين: الأول يتعامل مع القطاع “كما هو” مع التركيز على الاحتياجات الإنسانية الملحة بدلاً من رؤى التطوير العقاري. والثاني يستند إلى رؤية عقارية للبناء الشامل والطويل الأجل. وقد يتضمن هذا النموذج مصادرة الأراضي المتضررة، ما يتطلب من السكان تسجيل حقوقهم في مكتب عقاري، بينما يستمر البناء عبر الأراضي المتاحة، وهذا قد يؤخر عودة الممتلكات والتعويض الكامل لمدة تتراوح بين 7 إلى 10 سنوات.

وسيحتاج هذان المشروعان إلى مليارات الدولارات. والدول الداعمة لكليهما تخشى من هدر أموال لا تفضي الى حل سياسي طويل الأمد.

من هنا، يقول العمري إن إصلاح السلطة الفلسطينية لا يشكّل أولوية لدى الإدارة الأميركية الحالية، بل هو في الواقع “شكلي وفلكلوري” من المنظور الأميركي.

ولا يعتقد العمري أن مطلب الإصلاح جاء كمطلب أميركي أساسي، بل هو “مطلب عربي” ملحّ من الشركاء الخليجيين، حسب رأيه. ويشرح العمري أن ما يحول دون جدية الطرح الأميركي، هو أولا غياب إرادة سياسية حقيقية للدفع قدما بهذا الملف، مشيراً إلى أن هذا النقص في الجدية كان واضحاً أيضاً خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ترامب. المسألة الثانية تتمثل في نقص الأدوات التنفيذية في الإدارة الحالية، خصوصاً كوادر متخصصة في واشنطن تتابع التفاصيل “كل يوم وكل ليلة” لضمان عدم تهرب السلطة الفلسطينية من الالتزامات، وهو أمر غير متوفر نظراً لكثرة الملفات التي تتولاها الإدارة الحالية في الداخل والخارج.

أما الموقف الإسرائيلي، وخصوصا حكومة الرئيس بنيامين نتنياهو، فهو غير مهتم أصلاً بالإصلاح المالي والسياسي في الجانب الفلسطيني. بحسب العمري ما يهم إسرائيل هو التركيز على مسائل تتعلق بالمناهج التربوية في المدارس ومنع “التحريض” ضد الإسرائيليين. وتسمح سلطة ضعيفة وغارقة في الفساد المالي، للمسؤولين الإسرائيليين بتعزيز مقولة أنه “لا يوجد شريك فلسطيني” للسلام، مما يبعد بشكل فعال إمكانية حل الدولتين.