في أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، دعا الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو إلى “ضمان أمن إسرائيل”، واعتبره “شرطاً للسلام الحقيقي”.
سوبيانتو، الذي وصل إلى الحكم في أكتوبر من العام الماضي، حيا الحاضرين بكلمة “شالوم“، وأعلن بوضوح دعمه لحل الدولتين.
كان هذا الموقف لافتًا للغاية من أكبر دولة إسلامية في العالم.
“تاريخيًا، الدبلوماسية الإندونيسية كانت دائمًا ضد أيّ تقارب علني مع إسرائيل، لأن ذلك غير مقبول شعبيًا داخليًا ولا يحظى بتأييد داخل الجهاز البيروقراطي في الدولة”، كما يقول يوهانيس سليمان، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الجندال أحمد ياني في يوجياكارتا، لموقع “الحرة”.
ومع ذلك، لم يغفل الرئيس الإندونيسي عن إدانة إسرائيل بشدة بسبب الحرب في قطاع غزة.
كان برابوو سوبيانتو حاضرًا أيضًا في قمة شرم الشيخ، التي شهدت توقيع مصر وقطر وتركيا إلى جانب الولايات المتحدة على وثيقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار.
وبالتزامن مع القمة، تناقلت وسائل إعلام مختلفة أنباء عن زيارة مرتقبة للرئيس الإندونيسي إلى إسرائيل، ستكون الأولى من نوعها.
الشائعات عززتها تلميحات من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي طلب من المحكمة التي تنظر قضيته إلغاء إحدى جلساتها بسبب “زيارة سياسية عاجلة ومهمّة بشكل خاص”، دون تقديم تفاصيل.
إلا أن وزارة الخارجية الإندونيسية سارعت إلى نفي التقارير الصحافية رسميًا، مؤكدة أن الرئيس سيعود إلى جاكرتا بعد انتهاء زيارته إلى مصر، وهو ما حدث بالفعل.
رغم ذلك، تحدثت صحف إسرائيلية عن أن سوبيانتو وافق على زيارة تل أبيب، لكنه “تراجع بعد تسريب الخطة”، كما فتحت صحف أخرى الباب للحديث عن “موجة تطبيع جديدة” قد تكون إندونيسيا أحد أعمدتها الرئيسة.
في الواقع، أعلن الرئيس سوبيانتو منذ مايو الماضي أن “إندونيسيا مستعدة للاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها إذا تم الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة من قبلها”.
كان ذلك خلال مؤتمر صحفي في جاكرتا إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
لكن رغم هذه الإشارات، واصلت جاكرتا نهجها التقليدي المناهض لإسرائيل. فحتى بعد قمة شرم الشيخ، منعت الرياضيين الإسرائيليين من المشاركة في بطولة العالم للجمباز، وهو الموقف نفسه الذي كلّفها تجريدها من تنظيم كأس العالم تحت 20 عامًا عام 2023.
جاكرتا رفعت أيضا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وأيّدت اتهامات جنوب إفريقيا للأخيرة بارتكاب إبادة جماعية.
تقول ديوي فورتونا أنور، الأكاديمية والمستشارة السابقة للرئيس الإندونيسي الأسبق بي. جي. حبيبي، لـ”الحرة”: “إندونيسيا لا تعترف بإسرائيل، ولن تُقيم علاقات دبلوماسية معها إلا بعد قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود واضحة”.
وتضيف: “هذا الموقف أُقرّ منذ مؤتمر باندونغ عام 1955”.
ومع ذلك، يعتقد عدد من صنّاع القرار أن الشائعات حول اقتراب إندونيسيا من الانضمام إلى اتفاقات أبراهام ليست مجرد ضوضاء. يقول مصدر أوروبي مطلع في تصريح لزميلنا جو خولي إن إندونيسيا “تنهج استراتيجية محسوبة؛ ويبدو أن جاكرتا، في العلن، متمسكة بخطاب قويّ مؤيد لفلسطين بينما تختبر بهدوء إلى أيّ مدى يمكنها توسيع هامش سياستها الخارجية”.
ويضيف إن الحكومة “تنفي دائمًا أيّ حديث عن تطبيع، لكنها في الوقت نفسه تترك الباب مواربًا عبر لغة الاعتراف المشروط، فيما يبدو كاستعراض دبلوماسي أكثر منه تحولًا فعليًّا في الموقف”.
ضغوط الشعب وحسابات الرئيس
منذ استقلالها، ظلّت إندونيسيا تتجنب أيّ تقارب علني مع إسرائيل. ولعقود طويلة، طبع مبدأ “Bebas Aktif” (الحرية النشطة) سياستها الخارجية.
يقول الباحث فصيح حميد في مقال له، في “مركز التحليل لمجموعة بريكس+ ورابطة دول آسيان”، إن الرئيس سوبيانتو يسعى إلى إعادة صياغة هذا المبدأ، بحيث لا يقتصر على الحياد الذي ميّز الدبلوماسية الإندونيسية سابقًا (كانت من أبرز مؤسسي حركة عدم الانحياز)، وإنما يضيف إليه منطقًا براغماتيًا يعزز قدرات البلاد السياسية والاقتصادية.
ويرى يوهانيس سليمان أن سوبيانتو “يسعى لوضع إندونيسيا في مركز الاهتمام، عبر إبراز دورها في الحفاظ على السلام ولعب دور مهم في تسوية النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي”.
ويضيف: “الرئيس يريد أن يظهر أن إندونيسيا لاعب أساسي في السياسة الدولية”، لذا عليه أن يوازن بين طموحه الشخص والقيود السياسية الداخلية، لأن “دعم فلسطين يحظى بإجماع شعبيّ هائل”.
ويشير سليمان إلى أن إرسال قوات حفظ سلام إلى غزة “قد يُنظر إليه في إندونيسيا كوسيلة لإضفاء الشرعية على عملية سلام يرى كثيرون في إندونيسيا أنها تصبّ في مصلحة إسرائيل”.
وقد أعلنت جاكرتا بالفعل استعدادها للمساهمة بـ20 ألف جندي ضمن قوات حفظ السلام. ويقول سليمان إن “إندونيسيا تمتلك عددًا كبيرًا من الأفراد العسكريين الذين يمكنها نشرهم في مهام حفظ السلام”.
أما ديوي فورتونا أنور فتقول إن إندونيسيا كانت دائماً مساهمًا أساسيًّا في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، لكنها لا تشارك في مهام قتال أو فرض سلام بالقوة، التزامًا بقوانينها الداخلية.
وتضيف إن فكرة نشر قوات في غزة ليست جديدة لدى الرئيس سوبيانتو، إذ طرحها منذ حملته الانتخابية.
التطبيع مقابل مقعد في الـ”OECD”
وراء التحركات السياسية للرئيس سوبيانتو، تقف أيضًا دوافع اقتصادية واضحة، إذ تسعى إندونيسيا جاهدة للانضمام إلى “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (OECD).
في أبريل 2024، نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن مسؤول إسرائيلي قوله إن إندونيسيا مستعدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في إطار محاولتها الانضمام إلى المنظمة.
وكشف المسؤول أن محادثات سرية استمرت لأشهر بين البلدين برعاية الأمين العام للمنظمة ماتياس كورمان.
وبحسب “تايمز أوف إسرائيل”، بدأت المنظمة فعلاً عملية إدراج جاكرتا، لكن إسرائيل اعترضت على الخطوة بسبب غياب العلاقات الدبلوماسية، ورفض وزير الخارجية يسرائيل كاتس سحب اعتراضه مشترطاً التطبيع المسبق.
ولأن انضمام أيّ عضو جديد يتطلب إجماع الأعضاء، فإن إسرائيل تمتلك فعليًا حق النقض على الطلب الإندونيسي.
بعد أقل من عام، انضمت إندونيسيا إلى مجموعة بريكس في يناير 2025.
ورغم غياب العلاقات الرسمية، تقدَّر التجارة المباشرة وغير المباشرة بين إسرائيل وإندونيسيا بنحو 500 مليون دولار سنوياً، وفق ما ذكرته المديرة التنفيذية للمركز الإسرائيلي الآسيوي ريبيكا زيفيرت في 2022، للصحيفة نفسها.
مفاوضات سرية
تُعدّ إندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، وتشتهر بتظاهراتها الحاشدة المؤيدة للفلسطينيين، خاصة في العاصمة جاكرتا.
تقول ديوي فورتونا أنور: “قضية فلسطين ليست مسألة دينية بحتة.. هي من ركائز الهوية السياسية الإندونيسية”.
وتضيف: “كلّما ظهرت شائعات حول تقارب مع إسرائيل؛ يواجه الرئيس موجة رفض شعبي وبرلماني.”
ورغم أن “الكثير من الإندونيسيين يزورون إسرائيل عبر الأردن باستخدام جوازات سفر عادية”، كما تقول أنور، فإن “المسؤولين الرسميين لا يذهبون أبداً، لأن العلاقات محظورة رسميًا”.
لكن رغم الرفض الشعبي، تشير تقارير صحافية إلى أن المحادثات السرية بين إندونيسيا وإسرائيل بدأت حتى قبل توليّ الرئيس الحالي برابوو سوبيانتو السلطة في أكتوبر 2024. حينها كان الحديث يجري حول احتمام انضمام جاكرتا إلى “اتفاقات أبراهام”، لكن هجمات الـ7 من أكتوبر واندلاع الحرب في غزة، أوقفت كلّ شيء.
يومها، خرج مكتب الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو لينفي أيّ نية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
انتظار السعودية وتوقيت التطبيع
تاريخيًا، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين جاكرتا في أكتوبر 1993 والتقى بالرئيس سوهارتو، لكن بعد انتخاب بنيامين نتنياهو عام 1996 وتوقف محادثات السلام، أغلقت جاكرتا أبوابها مجددًا أمام تل أبيب.
وتضع أندونيسيا رسميا شرط اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية كخطوة أولى لتطبيع العلاقات. وهو ما فسر الانفتاح في العلاقات بين البلدين خلال التسعينيات.
تخشى جاكرتا أيضا من أيّ ردة فعل داخلية، ولذلك فإن تطبيع العلاقات في إطار إقليمي تقوده دولة مثل السعودية قد يكون غطاء مناسبا للتقارب مع إسرائيل.
ويعتقد مسؤولون إسرائيليون، بحسب “يديعوت أحرونوت” وصحف أخرى، أنه من المحتمل أن تنتظر إندونيسيا السعودية، لأن تطبيع المملكة، بوصفها حامية الأماكن المقدّسة، سيمنح جاكرتا الغطاء اللازم أمام الانتقادات الداخلية والخارجية.
ويرى يوهانيس سليمان أن انضمام إندونيسيا لاحقًا إلى اتفاقات أبراهام قد يصبح ممكنًا، “خاصة بعد انضمام السعودية” بسبب تأثيرها الرمزي في العالم الإسلامي.
أما السعودية، فتشترط بدورها إقامة دولة فلسطينية مستقلة قبل أيّ تطبيع مع إسرائيل، مستندة إلى المبادرة العربية للسلام التي طرحتها في قمة بيروت عام 2002.
سيناريوهات المستقبل
يدرك الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو أن استقرار بلاده الداخلي خط أحمر لا يمكن تجاوزه. لذلك، من المحتمل أن يكون حدث التطبيع تدريجيًّا ومحسوبًا، ويرتبط بتطورات القضية الفلسطينية ومسار مفاوضات انضمام إندونيسيا إلى منظمة الـOECD، أو بغطاء سعودي يمنح الخطوة شرعية إسلامية أوسع.
على أرض الواقع، يمكن أن تستمر أو تستأنف علاقات غير رسمية بين البلدين مع احتمال فتح مكاتب مصالح غير دبلوماسية، في محاولة لتلبية شروط الانضمام إلى OECD دون إثارة غضب الشارع الإندونيسي.
أما في حالة توقيع اتفاق إقليمي مع إسرائيل تقوده السعودية، وتحقيق تقدم ملموس نحو حلّ الدولتين، فإن المجال سيكون ملائما أكثر أمام إندونيسيا للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام. وسيمنح هذا الرئيس سوبيانتو الغطاء السياسي والشرعي المطلوب داخليًا وإقليميًا.
عدا ذلك، يمكن أن يبقى الوضع الحالي قائما، مع تعزيز دعم الدول الإسلامية، ومن بينها أندونيسيا، لغزة عبر المساعدات الإنسانية ومبادرات حفظ السلام.