الإمام الذي كفّره رفاقه!

Loading

في برنامجه الأسبوعي على المنصات الرقمية لـ”الحرة”، يناقش الكاتب والصحفي، إبراهيم عيسى، الاضطهاد الذي يلاحق المفكرين والمجددين الحيز الديني، مستحضرا محنة الإمام أبي حنيفة النعمان، الذي يصفه بـ”رمز الاستنارة الدينية في مواجهة الجمود والتعصب”.

يكشف عيسى كيف تحول اجتهاد أبي حنيفة النعمان إلى سبب لمحاربته والتشهير به من قبل خصومه، رغم مكانته الرفيعة في الفقه الإسلامي، حيث يعد مؤسسا لأحد أكبر المذاهب في العالم الإسلامي.

النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة.

المعركة الحقيقية منذ اللحظة الأولى للتاريخ الإسلامي، هي معركة ما بين الظلامية والاستنارة، بين الفكر الظلامي والفكر المستنير. وهي معركة قديمة بقدم الخلافات الدينية حول السياسة. في الواقع، كانت القصة كلها أصلا سياسية من اللحظة الأولى.

الصراع على السلطة هو الذي أطلق كل موجات الانقسام والخلاف، ثم جاء الفقه ليغلف هذا الصراع بغلاف “ديني” يمنحه الشرعية.

فحين اشتعلت الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، لم يكن الخلاف حول حديث أو آية، بل حول من يحق له الحكم، وكيف نحاسب قتلة عثمان. لم يجلس أحد ليتجادل حول معنى نص أو تفسير آية.

من رحم تلك الفتنة السياسية خرجت الفرق، وتوالدت الجماعات. هكذا، ظهر من عُرفوا لاحقا باسم الشيعة، أي أنصار علي بن أبي طالب. في تلك المرحلة لم يكن هناك مذهب شيعي بالمعنى الفقهي أو العقدي بعد، بل كانت حركة سياسية تدعم عليًّا.

ومع تصاعد الصراع على الحكم، لجأ كل طرف إلى تغليف موقفه السياسي بغطاء ديني، فتحولت المنافسة على السلطة إلى خلافات مذهبية، وصراعات فقهية، ونقاشات دينية ما زالت آثارها ممتدة حتى اليوم.

مدرسة الرأي في مواجهة مدرسة النقل

وما دامت الأبواب قد الأبواب على مصراعيها للنقاشات والجدالات والخلافات، فكان طبيعيًا جدًا أن تظهر فئة تبحث عن العقل والتيسير والتنوير والاستنارة، في مقابل فئة أخرى تميل إلى التشدد والانغلاق وإلغاء التفكير. وهكذا بدأ الصراع القديم بين العقل والنقل: ففريق يقول “نسمع ما قاله السابقون فنصدّقه ونعمل به كما هو”، وهؤلاء هم أهل النقل، الذين يسُمون أنفسهم أهل السنة. أما الفريق الآخر، فهم أهل العقل ومدرسة الرأي، الذين قالوا: “نسمع ونقرأ، لكن نحكّم عقولنا فيما نسمع ونرى”. ومن هنا نشأت مدرسة الرأي التي آمنت الاجتهاد حقّ.

مدرسة الرأي لم تكن تمردًا على النص، بل محاولة لإعمال العقل. لكنها وُوجهت بالاتهام من اللحظة الأولى. كان لا بد أن تُتَّهم، لأنها تُعمل عقلها. وهنا يكمن جوهر الصراع بين الظلامية والاستنارة. فالظلامية، تتعامل مع الإنسان كأنه كفيف، يحتاج من تقوده من يده، أو يمنحه عصًا يتحسّس بها الطريق. وتلك العصا هي الشيخ أو المفتي الذي لا يُسمح لك بتجاوزه أو التفكير من دونه.

أما الاستنارة، فهي التي تؤمن أن فيك عينًا تبصر وبصيرة ترى، وأنك قادر أن تسلك طريقك بنفسك. هذا الفكر المستنير، سيواجه طوال التاريخ، بالعداء والغضب والاتهام والطعن، بل وبالاضطهاد أيضًا.

أبو حنيفة.. الفقيه الذي صار هدفًا للكراهية

إذا أردنا أن نفهم جذور اضطهاد الفقه التنويري، فلن نجد مثالًا أبلغ من الإمام أبي حنيفة النعمان، الذي وُصف بـ “الإمام الأعظم”. ومع ذلك، لم يكن تلاميذه على قدر كافٍ من الوفاء له، فقد غيّر بعضهم في مذهبه وأفكاره تحت ضغط الخصومة الشديدة، وتحت عنف الهجوم الذي تعرّض له مذهبه من مدارس أخرى، كالشافعية والحنابلة. لكن في نهاية المطاف، ورغم كل تلك الحملات، ظلّ أبو حنيفة هو الإمام الأعظم، وبقي عنوانًا للعقل والاستنارة في الفقه الإسلامي.

والحقيقة أن ما تعرّض له أبو حنيفة من اتهامات واضطهاد يبعث على التأمل. أحيانا أقول: لا ينبغي لأحد أن ينزعج من الهجوم عليه. فإذا كان أبو حنيفة نفسه، بعلمه وريادته ومكانته، قد نال نصيبه من واللعن والاتهام، فماذا ينتظر من جاء بعده؟!

ابن عابدين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، وصف ما جرى لأبي حنيفة بكلمات موجعة حين قال: “إن الإمام أبا حنيفة لما شاعت فضائله وعمّت الخافقين فواضله، جرت عليه العادة القديمة من إطلاق ألسنة الحاسدين فيه، حتى طعنوا في اجتهاده وعقيدته”.

تأمل العبارة: “العادة القديمة”. أي أن الطعن في المستنيرين منذ القدم أصبح عادة متوارثة، لا حدثًا استثنائيًا.

لم يتوقف الأمر عند الكلام، بل وصل إلى حدود مهينة: فقد نقل الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” أن أبا حنيفة استُتيب من الزندقة مرتين. تخيّل! إمام من أئمة الإسلام يُؤتى به ويُقال له: “اشهد أن لا إله إلا الله”! أي محاكم تفتيش هذه.

ولم يكتفِ خصومه بذلك. فعبد الله بن أحمد بن حنبل، نجل الإمام أحمد، روى أن أباه كان لا يثق في تلاميذه إلا إذا كانوا يبغضون أبا حنيفة! بل قال في موضع آخر إن أباه كان يقول لأتباعه إن “الرجل يُؤجر على بغض أبي حنيفة وأصحابه”! أي إن الكراهية صارت عبادة، والعداء صار تقرّبًا إلى الله.

أما مالك بن أنس، فله مقولة تُروى عنه: “ما وُلد في الإسلام مولود أضرّ على أهل الإسلام من أبي حنيفة”. وهي عبارة تصف عمق الشقاق بين المذاهب في ذلك الزمن، حين كانت الخلافات الفقهية تتحول إلى معارك عقائدية، وحين كان الفقيه يهاجَم لأنه اجتهد بعقله.

من محاكم الأمس إلى منابر اليوم

هل تغيّر المشهد اليوم؟ ليس تماما. ومادام الأمر كذلك، فلم الاستياء إذن من الهجوم على المفكرين والكتّاب المستنيرين؟! لم الانزعاج من حملات التشهير والتشويش التي تُلاحقهم باتهامات “ازدراء الأديان” أو “الزندقة” أو “الخروج عن الإسلام”؟ بل أحيانًا تُضاف إليها تهم من قبيل “العمالة للغرب الصليبي الاستعماري”.

لم الانزعاج أصلًا، إذا كان أبو حنيفة نفسه، وهو الإمام الأعظم، قد قيل فيه إن كراهته عبادة يؤجر عليها المسلم؟! ومن قال هذا؟ ابن حنبل نفسه!

فماذا تنتظر لبقية المفكرين؟ من الطبيعي أن يهاجموا ويضطهدوا ويشهر بهم!

تسألني: لماذا يُضطهد الفقهاء المستنيرون والمجتهدون العقلانيون في زماننا؟ أقول لك لأن هذا دأب التاريخ. يُضطهدون من المؤسسات الدينية، ويُطارَدون من الجماعات التكفيرية، ويُطعَنون من السلطات الرسمية. ثم يأتي دور جيوش الوعاظ والدعاة على السوشال ميديا، الذين يصبّون عليهم سيلًا من الاتهامات، والافتراءات، والتكفير، والتخوين.

فما الجديد إذن؟ إذا كان أبو حنيفة نفسه قد ناله الطعن من فقهاء كبار كمالك بن أنس وابن حنبل، أفلا يكون طبيعيًا أن يتعرض من بعده للاتهام كل من سار على طريقه؟ حين ترى كاتبًا أو مفكرًا مستنيرًا اليوم يُهاجَم، فلا تحزن عليه! حصل هذا لأبي حنيفة قبله.

إن قيل لك إن مفكرًا يتلقى اللعنات والهجمات من كل صوب، فقل لهم إنه يذكرني بأبي حنيفة، الإمام الأعظم، وكلنا عيال على أبي حنيفة.

لقد وُصف أبو حنيفة بأنه “أضرّ مولود على أهل الإسلام”. تخيّل! وأنتم تريدون منا أن ننزعج من الهجمات التي تُشن علينا الآن؟! لا يا جماعة، قولوا ما تشاؤون.