من سيارة نتانياهو إلى أروقة الشاباك!

Loading

بجرّة قلم ومن داخل سيارته، فتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو صفحة جديدة في تاريخ جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”.

القرار بتعيين الميجر جنرال دافيد زيني رئيسًا للجهاز لم يكن مجرد خطوة إدارية؛ بل شرارة أشعلت جدلاً سياسيًا وأمنيًا غير مسبوق داخل إسرائيل، في وقت تعيش فيه الدولة واحدة من أكثر مراحلها هشاشة.

المفاجأة لم تقتصر على مكان اللقاء، بل على ما تبعه: فور علم رئيس الأركان إيال زمير بأن نتانياهو أجرى مقابلة شخصية مع زيني من خلف ظهره، بادر إلى عزله من الجيش، ما يعني أن الضابط الذي خدم عقودًا طويلة لم يعد جزءًا من المؤسسة العسكرية، وأن مستقبله كله بات مرهونًا بقرار لجنة التعيينات والحكومة.

هذه الخطوة بدت للبعض “إذلالًا متعمّدًا” للمؤسسة العسكرية ورسالة بأن نتانياهو يتعامل مع أجهزة الأمن وكأنها أدوات شخصية.

زيني، البالغ من العمر 56 عامًا، خدم معظم حياته العسكرية في وحدات قتالية، وتدرّج في مناصب قيادية في ألوية ميدانية.

بالنسبة لكثيرين في معسكر المستوطنين، يُعتبر رمزًا للقائد “القريب من الأرض” و”المتجذّر في قيم الاستيطان”.

لكن سيرته العسكرية تفتقر إلى أي خبرة في الاستخبارات – المجال الذي يعدّ العمود الفقري لعمل الشاباك.

هذا الغياب يجعل منتقديه يطرحون سؤالاً جوهريًا: هل يمكن لجهاز مسؤول عن إحباط الهجمات، ومتابعة شبكات سرية في الضفة وغزة، والتعامل مع تهديدات داخلية معقدة، أن يُقاد حتى وان كان من قبل هذا الضابط العسكري الرفيع؟

الاعتراض على زيني لم يأتِ من المعارضة وحدها، بل من داخل المؤسسة نفسها.

أربعة رؤساء سابقين للشاباك – كرمي غيلون، نداف أرغمان، عمي أيالون ويورام كوهين – حذروا بصوت واحد من “خطر غير مسبوق”.

  • كوهين كشف أن نتانياهو طلب منه في 2014 العمل على سحب التصريح الأمني من نفتالي بنت بذريعة “انعدام الموثوقية”، وهو ما تبين لاحقًا أنه بلا أساس. وأكد أن مثل هذه الطلبات “غير القانونية” قد تتكرر مع زيني.
  • أيالون شدد على أن رئيس الشاباك يجب أن يجسد “النزاهة المطلقة”، مشيرًا إلى تصريحات منسوبة لزيني هاجم فيها النظام القضائي واعتبره “ديكتاتورية”، وهو ما يتناقض مع واجب الجهاز في حماية الديمقراطية.
  • أرغمان اعتبر أن مجرد تقديم نتانياهو للترشيح في ظل شبهات تضارب مصالح وفضيحة “قطر غيت” يقوض نزاهة التعيين.
  • غيلون حذر من “تفكيك الجهاز من الداخل” إذا تم تمرير التعيين.
    هذه الأصوات لا تمثل مجرد رأي معارض، بل “جرس إنذار” من شخصيات قادت الجهاز في أوقات حرجة وتعرف من الداخل حدود الاستقلالية المطلوبة لحماية الأمن والديمقراطية معًا.

ورغم الاعتراضات القوية من أربعة رؤساء سابقين للشاباك، صادقت لجنة التعيينات العليا برئاسة رئيس المحكمة العليا الأسبق آشر غرونيس بالإجماع على تعيين زيني.

اللجنة أوضحت في بيانها أن زيني نفى الأقوال المنسوبة إليه بشأن “تفضيل أوامر رئيس الحكومة على القانون”، وأكد أنه ملتزم أولًا بالقانون، مشيرة إلى أنه لا يوجد ما يستدعي استبعاده ضمن معايير النزاهة والاستقلالية التي ينص عليها القانون. مع ذلك، توقعت مصادر قانونية تقديم التماسات إلى المحكمة العليا ضد القرار.

في رأيه المرفوع إلى نتانياهو، كتب غرونيس أن رؤساء حكوميين سابقين طلبوا أحيانًا من الشاباك تنفيذ أمور “لا تليق بنظام ديمقراطي”، محذرًا من أن على زيني أن يفهم أن تبعيته للحكومة لا تعني تنفيذ أوامر تخالف القانون أو تمسّ بطهر اليد.

وبعد اعلان قرار اللجنة سارع رئيس الأركان إيال زمير  بزيني لتهنئته، مؤكدًا أن “التعاون بين الجيش والشاباك حيوي لأمن الدولة” وأنه سيدعمه شخصيًا.

وزير الدفاع يسرائيل كاتس بدوره قال بعد محادثة مع زيني: “الجيش خسر جنرالاً مميزًا، والشاباك ربح رئيسًا ممتازًا. أنا واثق أنه سيقود الجهاز بحكمة وقوة في هذه المرحلة الصعبة”.

وهنا يطفو على السطح من جديد ملف فضيحة “قطر غيت”، التي فجّرت جدلًا واسعًا داخل إسرائيل خلال العام الماضي. التحقيقات تناولت شبهات بعلاقات مالية وسياسية بين مقربين من نتانياهو وشخصيات مرتبطة بدولة قطر، وسط ادعاءات بأن هذه العلاقات أثرت على قرارات حكومية وملفات أمنية حساسة.

ورغم أن نتانياهو نفى أي تجاوز، فإن مجرد وجود هذه الشبهات جعل معارضيه يتهمونه بتضارب مصالح خطير، ويرون أن أي تعيين يقوم به – خصوصًا في موقع أمني حساس مثل رئاسة الشاباك – لا يمكن فصله عن هذا الملف.

التقديرات تشير إلى أن اللجنة ستصدر قرارها قريبًا، لكن عرضه على الحكومة قد يتأخر إلى ما بعد أعياد رأس السنة العبرية وعودة نتانياهو من رحلته إلى الولايات المتحدة.

في هذا المناخ المشحون، يصبح اختيار رئيس للشاباك قضية أبعد من مجرد تعيين شخصي؛ إنه صراع على من يملك القرار الأمني الحقيقي في إسرائيل.

الضابط السابق في الشاباك جونين بن يتسحاك قال في مقابلة مع “الحرة” إن زيني “لا يملك خبرة كافية في مجال الاستخبارات”، مشددًا على أنه بعد إخفاق السابع من أكتوبر ينبغي أن يتولى المنصب شخصية مهنية قادرة على إعادة ترشيد الجهاز. وأضاف أن هدف نتانياهو من هذا التعيين هو إبعاد الأنظار عن فضيحة قطر غيت عبر ضمان ولاء رئيس الجهاز المسؤول عن التحقيق في هذه القضية الحساسة.

وبحسب بن يتسحاك، فإن اختيار زيني القادم من صفوف المستوطنين يحمل بعدًا سياسيًا آخر، يتمثل في إرضاء الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، اللذين كانا في السابق تحت متابعة الشاباك، في وقت يتزايد فيه اتهام المستوطنين بارتكاب اعتداءات وأعمال وُصفت بالإرهابية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، بينما تتهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتقصير في منعه

في موازاة ذلك، احتدم السجال السياسي. رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بنت حذّر من “ضغوط هائلة” تمارس على القضاة وقادة الأجهزة الأمنية وأعضاء لجنة الانتخابات، مشيرًا إلى مخاطر التلاعب بالمسار الديمقراطي.

وزير الدفاع يسرائيل كاتس رد بعنف، متهمًا بنت بـ”اختلاق روايات” ومعارضة الحكومة “من أجل مكاسب رخيصة”.

لكن خلف تبادل الاتهامات، يتشكل نقاش أوسع: هل نحن أمام إعادة رسم العلاقة بين المؤسسات الأمنية والدولة؟ هل يحاول نتنياهو إخضاع الجيش والشاباك والقضاء لأجندته السياسية، أم أن هذه المؤسسات ستتمكن من الدفاع عن استقلاليتها؟

في بلد يعاني من انقسامات حادة، ووسط حرب لم تحسم نتائجها بعد في غزة، تحوّل تعيين شخص واحد إلى اختبار شامل لمعادلة القوة بين السياسة والأمن. بالنسبة لكثيرين، مصير زيني لم يعد مجرد شأن إداري؛ إنه رمز لمعركة أكبر على هوية إسرائيل.