![]()
في تطور يُعدّ من أقوى الهزّات القانونية والسياسية في إسرائيل منذ سنوات، تقدّم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الأحد، بطلب رسمي إلى الرئيس يتسحاق هرتسوغ للحصول على عفو من المحاكمة الجارية ضده بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
هذا الطلب جاء بعد نحو أسبوعين على الرسالة العلنية التي بعث بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى هرتسوغ، داعيا فيها إلى العفو عن نتنياهو، واصفا التهم بأنها “غير عادلة وذات دوافع سياسية”. في الرسالة الرسمية التي قدّمها نتنياهو إلى الرئيس الإسرائيلي، أشار بوضوح إلى دعم ترامب، معتبرا أن رئيس الولايات المتحدة “يعرف جيدا ما تتطلبه القيادة في مواجهة تحديات دولية وإقليمية غير مسبوقة”.
وأكد نتنياهو أن منحه العفو في هذا التوقيت “سيساعد في رأب الصدع الداخلي، ويُعزز وحدة الدولة في ظل فرص استراتيجية فريدة على الساحة الإقليمية”، ملمحا إلى مساعٍ محتملة لتوسيع اتفاقيات أبراهام، وردع إيران، وتعزيز التحالفات الأمنية، وهي مهام قال إنها تتطلب “تفرغا كاملا من القيادة السياسية” وذلك رغم ادعاءات سابقة له أمام المحكمة العليا بأنه قادر على إدارة البلاد والمحاكمة في آن واحد.
نتنياهو ذاته الذي شدد في الماضي بانه انتظر هذه المحاكمة من أجل اثبات برائته، يطلب الآن إلغاءها، لكن حجته لا يبدو أنه مقنعة لدى أوساط واسعة لدى الاسرائيليين. في رسالته قال رئيس الحكومة المتهم بأنه “مستعد لتقديم مصلحة الدولة على مصلحته الشخصية،” أي إثبات براءة في المحكمة بدلا من طلب إلغائها استجابة للتحديات والفرص. اللافت هو أن الطلب لم يتضمن أي اعتراف بالذنب أو تعبير عن الندم، وهو ما يتعارض مع الأعراف القضائية المتّبعة في ملفات العفو.
وأرفق محامون نتنياهو الطلب بإشارات قانونية إلى سوابق دولية، من بينها عفو الرئيس الأميركي الأسبق جيرالد فورد عن ريتشارد نيكسون، رغم أنه لم يُدان أو يُحاكم رسميا، كما لم يعترف بالذنب، في تلميح واضح إلى إمكانية تكرار النموذج في الحالة الإسرائيلية.
“طلب استثنائي وسيناقش بجدية”
وقال الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ إن طلب نتنياهو “يمس مشاعر كثيرين ويثير جدلا واسعا”، مؤكدا أنه سيُدرس “بدقة وبما يخدم مصلحة الدولة والمجتمع”. ودعا الإسرائيليين إلى طرح مواقفهم عبر موقع رئاسة الدولة، مشددا على أن “الخطاب العنيف لن يؤثر عليّ”، وأن الحوار الهادئ هو ما يتيح نقاشا بنّاء.
وكان ديوان الرئيس الإسرائيلي قد أكد، في بيان صدر الأحد وتلقّت “الحرة” نسخة منه، استلام الطلب الرسمي، مشيرا إلى أنه نُقل إلى القسم القانوني، ثم إلى لجنة العفو في وزارة العدل، التي ستجمع المواقف القانونية من الجهات المختصة، قبل أن يُعيد مستشارو الرئيس تقييمه لتقديم توصية نهائية بشأنه.
دعم متكرر وتوقيت محسوب
رسالة ترامب، التي وُجهت إلى هرتسوغ بتاريخ 12 نوفمبر، كانت قد نُشرت على نطاق واسع في وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية. فيها، وصف الرئيس الأميركي التهم ضد نتنياهو بأنها “ذات دوافع سياسية”، وقال: “بعد أن حققنا نجاحات غير مسبوقة، ونجحنا في كبح جماح حماس، حان الوقت للعفو عن بيبي حتى يتمكن من توحيد إسرائيل”.
وأضاف ترامب أن “نتنياهو وقف بثبات في وجه أعداء أقوياء ومعارضة داخلية شرسة، ولا ينبغي تشتيت تركيزه الآن”، مشددا على أنه “يحترم استقلال القضاء الإسرائيلي، لكنه يرى أن المحاكمة غير عادلة”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتدخل فيها ترامب في الملف. خلال زيارته للكنيست في شهر اوكتوبر الماضي، توجّه إلى هرتسوغ مباشرة قائلاً: “سيدي الرئيس، لما لا تعفو عنه؟ سيجار وشمبانيا؟ من يهتم؟”. كما صرّح لاحقًا بأنه كان “توقيتًا مثاليًا” لطرح الموضوع رغم حساسيته داخل إسرائيل. وفي مناسبات إعلامية عدة، كرّر ترامب دعوته لإنهاء المحاكمة، ووصفها بـ”مطاردة ساحرات سخيفة”، مؤكدًا: “الولايات المتحدة أنقذت إسرائيل، وحان الوقت لتنقذ نتنياهو”.
انقسام متوقع.. وتصعيد مضبوط على الجبهات
ردود الفعل على طلب العفو الذي قدّمه نتنياهو كشفت انقسامًا داخليًا عميقًا بين من يرى فيه فرصة لتوحيد الصفوف، ومن يعتبره تهديدًا صريحًا لمنظومة العدالة – مشهد بات مالوفا في إسرائيل بين مؤيدي نتنياهو ومعارضيه .
في معسكر الحكومة، دافع وزراء بارزون عن الخطوة باعتبارها “ضرورة وطنية” في ظل الأوضاع الأمنية المتوترة. وزير الدفاع يسرائيل كاتس دعا إلى إغلاق ملف المحاكمة لتقوية الجبهة الداخلية، بينما شدد إيتمار بن غفير على أن “لا تناقض بين الإصلاح القضائي والعفو”، بل إن كليهما يخدم “أمن الدولة”.
في المقابل، شددت المعارضة على أن من يطلب العفو عليه أن يعترف أولا، ويغادر المشهد السياسي. نفتالي بينيت رئيس الوزراء الأسبق أعرب عن استعداده لدعم “تسوية شاملة” تشمل اعتزال نتنياهو الحياة السياسية، فيما اعتبر زعيم المعارضة يائير لابيد أن العفو دون ندم واعتراف “إهانة للقانون”، محذرا الرئيس هرتسوغ من الوقوع في “فخّ سياسي مغطى بخطاب المصالحة”.
لكن صحيفة هآرتس لم تكتف بتحليل هذه المواقف من زاوية قانونية أو سياسية، بل ربطتها بالسياق الأمني الإقليمي، مشيرة إلى أن إسرائيل “تُبقي جبهاتها الشمالية في لبنان وسوريا مشتعلة عمدا”، في غياب استراتيجية خروج حقيقية. ووفقًا لتحليلها، فإن العمليات العسكرية المتكررة، من اغتيال قياديين في حزب الله، إلى اعتقال نشطاء في الجولان، لا تُظهر نهجًا استراتيجيًا واضحًا، بل تندرج ضمن سياسة تهدف إلى إبقاء الدولة في حالة توتر مزمن، تخدم سردية نتنياهو حول الخطر الوجودي وتُضفي شرعية على طلب العفو.
وترى الصحيفة أن الحكومة ترفض السير نحو اتفاقات نزع تصعيد، رغم ما أبدته كل من بيروت ودمشق من استعدادات. فبدلًا من دعم جهود الجيش اللبناني لجمع السلاح أو فتح قنوات حوار مع النظام السوري، تختار الحكومة الإسرائيلية الردع العسكري المحدود، والاحتفاظ بنقاط تماس قابلة للاشتعال.
في نظر هآرتس، هذا “التصعيد المضبوط” لا يُستخدم فقط للضغط على خصوم إقليميين، بل لتشكيل رأي عام داخلي يؤيد بقاء نتنياهو بدعوى الاستقرار. وهكذا، فإن المشهد الإسرائيلي لا ينقسم فقط بين يمين ويسار، بل بين من يسعى لفرض عفو فوق القانون بحجة الأمن، ومن يحذّر من استخدام الأمن كذريعة لتقويض الديمقراطية.
جدل قانوني وأفق مجهول
رغم الدعم السياسي الواسع الذي يحظى به نتنياهو في أوساط اليمين، يبقى مصير طلب العفو الذي قدّمه محفوفًا بتعقيدات قانونية ودستورية. فوفقًا للوائح الإسرائيلية، لا يُنظر عادةً في طلبات العفو إلا بعد انتهاء الإجراءات القضائية بشكل نهائي، ويتطلب ذلك في العادة اعترافًا بالذنب وتعبيرًا واضحًا عن الندم، وهي شروط لا تتوفر في حالة نتنياهو، ما يثير مخاوف قانونيين من أن يشكّل هذا الطلب سابقة غير مألوفة قد تُطعن أمام المحكمة العليا.
وتُظهر الخريطة الإجرائية التي نشرها ديوان الرئيس الإسرائيلي أن مسار النظر في طلبات العفو يمر بمراحل معقّدة تبدأ باستلام الطلب وتحويله إلى قسم العفو في وزارة العدل، الذي بدوره يتوجه إلى جهات حكومية مختصة لجمع المعلومات والتوصيات (مثل الشرطة، الشاباك، مصلحة السجون، والوزارات ذات الصلة). بعد ذلك، تُنقل التوصيات إلى لجنة العفو التي تُجري مداولات موسّعة مع القسم القانوني في ديوان الرئيس، تمهيدًا لصياغة الرأي النهائي الذي يُرفع إلى الرئيس.
وفي ظل اشتعال الجبهات السياسية، يبقى القرار النهائي في يد الرئيس هرتسوغ، الذي يجد نفسه أمام لحظة تاريخية: إما أن يفتح باب الخلاص لنتنياهو ويخاطر بإشعال انتفاضة قانونية، أو أن يُغلق الباب ويترك المحاكمة تأخذ مجراها، في واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في تاريخ إسرائيل السياسي والقضائي.