![]()
على مدى العقد الماضي، أعادت دول الخليج رسم سياستها المالية الخارجية بطريقة مختلفة عن سياسة “العطاء المفتوح” التي عُرفت بها خلال عقود.
لم تعد الرياض وأبوظبي، ومعهما الدوحة والكويت، تنظر إلى المساعدات بوصفها تعبير عن تضامن عاطفي أو التزام أخلاقي محض تجاه دول “عربية شقيقة”. وأصبحت المساعدات أداة لإدارة الاستقرار، وضبط النفوذ، وحماية الأمن الإقليمي.
هذا التحول يظهر بوضوح في التعامل مع الدول التي تُعتبر الأكثر هشاشة: لبنان، ومصر، والأراضي الفسلطينية، وسوريا، والسودان، حيث لم تعد الدول الخليجية تضخ المساعدات دفعة واحدة ومن دون متابعة، بل أصبحت محكومة بآليات وشروط سياسية واقتصادية، ومعايير تتعلق بسلطة الدولة وحوكمتها.
وفي هذا السياق، تشير مراجعات غربية إلى أن التحول في نهج المساعدات الخليجية لا يُقرأ فقط كإعادة ترتيب أولويات، بل كجزء من أدوات النفوذ الجيو-اقتصادي. ففي تقرير صدر عن International Institute for Strategic Studies (IISS) في أكتوبر 2023، ورد أن دول الخليج “قدّمت بين عامي 1963 و2022 ما يُقدَّر بـ 363 مليار دولار إلى 22 دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، وأن جزءا من هذا التمويل استُخدم في لحظات الأزمات “بما يكفي لتغيير الحسابات السياسية للدول المتلقّية”.
منح مشروطة
في دافوس عام 2023، قال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، إن المملكة اعتادت تقديم منح وودائع من دون شروط، مضيفا أن بلاده “باتت اليوم تعمل عبر المؤسسات الدولية لرؤية إصلاحات ملموسة” في الدول المتلقية. وكان ذلك إعلانا صريحا عن انتهاء مرحلة، وبداية أخرى تربط التمويل بالإصلاح، وتربط الإصلاح بالاستقرار.
في قراءة اللواء محمد القبيبان، هذا التحوّل جاء استجابة لبيئة إقليمية متغيرة، وليس مجرد خيار. يقول إن الانتقال من “مساعدات بلا قيد” إلى دعم مصاغ وفق حسابات سياسية وأمنية ترتبط بحاجة دول الخليج إلى حماية أمنها الوطني. لكنه يحذر من اختزال الأمر بفكرة “شراء الدول سياسيا”. وأوضح أن التأثير الحقيقي يكمن في “دعم اقتصادي يعيد بناء الدولة ويخلق مصالح مشتركة مستدامة، لأن الاقتصاد هو اللاعب الذي يحرك القرار السياسي”.
المقاربة ذاتها يعززها الدكتور ظافر العجمي الذي يرى أن تجارب لبنان واليمن والعراق وسوريا أظهرت كلفة ضخمة لدعم دول لا تمتلك سلطة مركزية موحدة. ويوضح أن المساعدات اليوم محكومة بشرطين أساسيين: استقرار داخلي يمنع تبديد الأموال، وتوازن خارجي يضمن ألا تنتهي المساعدات في يد قوى مرتبطة بأجندات إقليمية متعارضة مع مصالح الخليج.
ولهذا تنظر دول الخليج بحذر إلى الحكومات التي تعاني انقساما داخليا، أو التي تخضع لتأثير قوى مثل إيران أو جماعات الإسلام السياسي أو تركيا. هذا الحذر ليس على شكل مواجهة مباشرة، بل عبر سياسات تمويل دقيقة تتجنب أن تتحول الأموال إلى “ضمانة” لقوى مسلحة أو أحزاب تمتلك نفوذا يفوق نفوذ الدولة.
لكن قراءة لـ Carnegie Endowment for International Peace، تعود إلى العام 202، تطرح مقاربة أكثر تحفظا للمساعدات كأداة استقرار خالصة. تقول الدراسة إن دول الخليج “باتت تميل إلى نهج أكثر تجارية (…) تركّز فيه على مكاسب سياسية واقتصادية”، وأن دولا عربية عديدة “فقدت سندها التقليد من الدعم الخليجي، وبدأت تبحث عن مصادر بديلة من المؤسسات الدولية.
وتُظهر بيانات نشرها IISS في أكتوبر 2023، أن الجزء الأكبر من مساعدات الإنقاذ الخليجية يذهب إلى عدد محدود من الدول؛ إذ تستحوذ مصر والعراق وحدهما على نحو 57% من إجمالي التمويل المقدم بين عامَي 1963 و2022. وعلى خلاف العراق، الذي تركزت حصته من هذا الدعم خلال حربه مع إيران، تعدّ مصر والأردن وباكستان المستفيدين الأكثر ثباتًا من المساعدات الخليجية عبر العقود الستة الماضية.
غزة ولبنان: شروط ما بعد الحرب
في الأشهر التي تلت حرب غزة عام 2023، تقدمت الإمارات واجهة المشهد الإغاثي بحزمة مساعدات تجاوزت 2.57 مليار دولار، وتبعتها السعودية وقطر عبر الجسور الجوية والبرامج الإنسانية. غير أن المساعدات الإنسانية لم تحجب الخلاف السياسي داخل المنطقة العربية بشأن شروط إعادة الإعمار.
هيئة البث الإسرائيلية “كان” نقلت في أكتوبر الماضي أن السعودية والإمارات لم تشاركا في قمة “شرم الشيخ” الخاصة بإعادة إعمار غزة بممثلين رفيعي المستوى. ووفق الهيئة، لم يكن ذلك “الغياب” بروتوكوليا، بل مرتبطا بموقف يربط الإعمار بـ“تفكيك البنية العسكرية لحركة حماس”.
وتقول “كان” إن العاصمتين الخليجيتين تدركان أنهما ستكونان الممول الأكبر لمرحلة الإعمار، ولا تريدان ضخ أموال في بيئة قد تعيد النزاع إلى نقطة الصفر.
المنطق ذاته يظهر في لبنان؛ فدول الخليج تتعامل بحذر شديد مع أي دعم مالي في ظل نفوذ حزب الله. هذا الحذر تجسد بوضوح عام 2016 حين أعلنت السعودية وقف المنحة العسكرية المخصصة للجيش اللبناني بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وهو قرار أيدته الإمارات والبحرين. تلك اللحظة مثّلت انتقالا فعليا من نهج “الدعم المفتوح” إلى “الدعم المشروط بقدرة الدولة على بسط سلطتها” في البلد.
اللواء القبيبان يصف لبنان بأنه “حالة سياسية شديدة التعقيد”، حيث تتزاحم القوى المسلحة والحزبية على القرار السياسي. ويشير إلى أن الفساد في مؤسسات الدولة وتداخل النفوذ الخارجي يجعل “أي دعم خارجي رهنا بهوامش ضيقة”. ويضيف أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية “مفتعلة في جزء منها أو مدفوعة بأجندات سياسية”، وهو ما دفع دول الخليج إلى إعادة تقييم أدواتها، والانتقال من تمويل مباشر إلى أدوات ضغط تشترط إصلاحات حقيقية.
ويختم القبيبان بأن الهجوم الإسرائيلي الأخير على لبنان كشف أن الدولة ليست صاحبة القرار العسكري، وهو واقع “يتعارض مع رؤية دول مجلس التعاون التي تشترط التعامل مع حكومة مركزية تمتلك قرارها”.
من الدعم الاستثمار
في مصر، اكتسب الدور الخليجي بعدا استثماريا على نحو ملفت. فقد ضخت الدول الخليجية نحو 30 مليار دولار كودائع في البنك المركزي المصري خلال سنوات الأزمة الاقتصادية، وشكلت تلك الودائع مظلة حماية للاحتياطي النقدي.
ثم جاءت صفقات بمستويات عالية، أبرزها صفقة رأس الحكمة الإماراتية بقيمة تقارب 35 مليار دولار، يليها مشروع قطري ساحلي بنحو 30 مليارا. أما الكويت فمددت وديعتها البالغة ملياري دولار حتى سبتمبر 2025، ما أعطى إشارة عملية إلى استمرار الدعم المالي الخليجي لكن عبر الاستثمار.
هذه التحركات تعكس انتقالا من “المساعدة الطارئة” إلى “الاستثمار المشروط”، حيث يرتبط التمويل بالإصلاحات الاقتصادية والهيكلية، وبخطط تتوافق مع برامج المؤسسات الدولية.
دعم انتقالي في بيئة مضطربة
في السودان، الذي يشهد حربا متواصلة منذ 2023، كانت الإمارات أكبر مانح خليجي بأكثر من ثلاثة مليارات دولار، إلى جانب دعم سعودي وقطري عبر وكالات الأمم المتحدة.
وفي سوريا، بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، في ديسمبر 2024، اتسم الدعم الخليجي بالحذر. أسهمت السعودية وقطر في دعم الخدمات الأساسية ورواتب القطاع العام، بينما اتجهت الإمارات إلى استثمارات محددة مثل تطوير ميناء طرطوس. وكل هذه التحركات مشروطة بتقدم سياسي واضح وبسط سلطة مركزية على كامل الأراضي السورية.
الدكتور العجمي يصف هذه المرحلة بأنها “انتقال استراتيجي من المساعدات غير المشروطة إلى الاستثمارات طويلة الأجل”، مشيرا إلى أن الصناديق السيادية الخليجية أصبحت الأدوات الرئيسية لهذه الرؤية، حيث يرتبط التمويل بالملكية والإدارة وضمان العائد، بما يخلق علاقة اعتماد متبادل.
حسابات جديدة
في قراءة القبيبان، تستمر دول الخليج في تقديم الدعم الإنساني، لكنها تراقب معايير الاستقرار قبل أي خطوة كبرى، ومنها الانضباط المالي وسلامة العلاقة مع المؤسسات الدولية. ويؤكد أن “القبول الشعبي يظل معيارا مركزيا، مؤكدا أن دول الخليج لا تنظر إلى دعمها بوصفه أداة ابتزاز سياسي بل مسؤولية اخلاقية تجاه الشعوب قبل الحكومات”.
بهذه المعادلة، تبدو المساعدات الخليجية اليوم جزءا من استراتيجية أوسع لإدارة المخاطر الإقليمية. المال لم يعد يخرج بلا حساب، ولا يدخل بلا شروط. إنه استثمار في الاستقرار، ورسالة سياسية، وأداة نفوذ في منطقة تتغير موازينها باستمرار.