![]()
كاتب الرأي في شبكة MBN عز الدين شكري فشير هو روائي وأكاديمي ودبلوماسي مصري-أميركي، يدرّس في دارتموث كولدج. مؤلف “على فين يا مصر”. أحدث رواياته بعنوان “جريمة في الجامعة”.
في 17 نوفمبر، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 2803 الذي يجيز إنشاء “قوة استقرار دولية” لقطاع غزة. وقد أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقرار، موجهاً الثناء للرئيس الأميركي دونالد ترامب على دوره في تمريره.
ليس من الصعب فهم سبب هذا الترحيب. فالقرار يُعد التعبير الدبلوماسي الأوضح عن الانتصار العسكري الإسرائيلي – ليس فقط على حركة حماس، بل على مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية. إذ ينتزع القرار السيطرة على قطاع غزة من يد الفلسطينيين، ويقر نزع سلاح الجماعات المسلحة، وينشأ سلطة خارجية بقيادة أميركية من دون أن يقدّم مساراً ذا مصداقية نحو تقرير المصير أو إقامة الدولة أو حتى يتبنى المعايير المعتمدة لحلّ الدولتين. هذه تحوّلات عميقة. لكن، بما أن القرار يعكس الانتصار الشامل لطرف على الآخر، فمن غير المرجّح أن يُؤدي لإنهاء الصراع، بل على الأرجح أن يقتصر دوره على إعادة تشكيل مرحلته المقبلة.
يحوّل القرار مكاسب إسرائيل الميدانية إلى بنية للحكم. فهو ينقل السلطة القانونية على غزة من الفلسطينيين إلى الولايات المتحدة عبر إنشاء ما يسمى “مجلس السلام” الذي صممته واشنطن، ويمنحه وضعاً قانونياً دولياً. ولا يحدّد مجلس الأمن من هم أعضاء هذا المجلس أو كيف يتشكل، بل يكتفي بـ”الترحيب” بتأسيسه، ما يعني عملياً إسناد سلطة الإشراف الجديدة على غزة إلى خطة ترامب، التي تضع المجلس تحت رئاسة رئيس الولايات المتحدة وتترك تحديد عضويته لتحسم خارج إطار الأمم المتحدة.
وبذلك، لن يحكم سكان غزة أنفسهم، سواء عبر انتخابات جديدة أو من خلال المؤسسات الفلسطينية القائمة. فإدارة القطاع ستظل بيد “مجلس السلام” إلى أن “تستكمل السلطة الفلسطينية برنامج إصلاحها بنجاح… وتصبح قادرة على استعادة السيطرة على غزة بشكل آمن وفعّال”. وهذه معايير غير محددة ولا يمكن تحقيقها عمليا، وسيُقيّمها نفس الكيان الذي يفترض أن يتنحى عند تحققها. أما الدور الفلسطيني فينحصر في “لجنة تكنوقراطية غير سياسية” تتولى الإدارة اليومية تحت إشراف ودعم مجلس السلام. لا علاقة لكل هذا بممارسة السيادة، بل هو أقرب لإدارة بلدية تحت سلطة أجنبية.
كما يكلّف القرار الولايات المتحدة، لا أي طرف فلسطيني، بتحديد مستقبل العلاقة السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل. فعندما يرى مجلس السلام أن الظروف مهيّأة، “ستُنشئ الولايات المتحدة حوارا بين إسرائيل والفلسطينيين للتوصل إلى أفق سياسي”. بعبارة أخرى، فإن مستقبل غزة السياسي، مثل أمنها وحكمها واقتصادها، أصبح خارج أيدي الفلسطينيين تماماً.
يكرّس القرار 2003 أيضا هدف إسرائيل العسكري المعلن بالقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة. فهو يخول قوة الاستقرار الدولية (ISF) “ضمان تنفيذ عملية نزع سلاح قطاع غزة… والتفكيك الدائم لأسلحة الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة”. ويُعد هذا أوضح حظر قانوني حتى الآن للمقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة. كما يسمح القرار للقوة الدولية باستخدام “كل الوسائل الضرورية” لتنفيذ ذلك، على أن تنسحب القوات الإسرائيلية فقط عندما تُستوفى عملية نزع السلاح.
هيكل القرار واضح: الأمن أولاً، الإعمار ثانياً، السياسة لاحقاً – وربما بعد وقت طويل. إذ يمنح القرار “مجلس السلام” وقوة الاستقرار الدولية سلطة تنسيق إعادة إعمار غزة، فيما يتولى صندوق ائتماني تديره الدول المانحة – يُرجّح أن تموّله الإمارات وقطر والسعودية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – إدارة اقتصاد القطاع.
لكن لا شيء من هذا يعني أن الصراع سينتهي. بل إن التاريخ الحديث يشير إلى العكس.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، رعت الولايات المتحدة اتفاقاً ألزم منظمة التحرير الفلسطينية بتسليم أسلحتها الثقيلة ومغادرة بيروت تحت حماية قوات متعددة الجنسيات. غادر نحو 11 ألف مقاتل إلى تونس واليمن، والسودان، وسوريا، والجزائر. واعتقدت واشنطن وحلفاؤها أنهم أسسوا نظاماً جديداً مستقراً في لبنان. لكنه انهار خلال أسابيع: اغتيل الرئيس المنتخب بشير الجميل، وفي 23 أكتوبر 1983 قُتل 241 من مشاة البحرية الأميركية و58 مظلياً فرنسياً في تفجيرات انتحارية. ومن الفراغ الذي تلا ذلك وُلد حزب الله – أقوى وأكثر انضباطاً وتجذراً من منظمة التحرير. وبحلول مطلع 1984 انسحبت القوات الأميركية.
وتكرر المشهد في أفغانستان. انهار نظام طالبان خلال أسابيع من الغزو الأميركي عام 2001، وبدا أن الحركة قد تبخرت. لكن الجماعات المسلحة ذات الأساس الأيديولوجي والتي تتمتع بجذور اجتماعية نادراً ما تختفي. بحلول 2006 اشتدّ تمرد طالبان، وفي 2021 استعادت الحركة السيطرة على كابل.
ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة لغزة؟
إن أيديولوجيا حماس لا تترك مجالاً كبيراً للتأويل: فالمقاومة المسلحة ليست مجرد أداة سياسية، بل جزء من الهوية، مرتبطة بالجهاد الديني وبفكرة قدسية أرض فلسطين ووحدتها. أما الرأي العام الفلسطيني فلا يزال يؤيد بأغلبية ساحقة خيار المقاومة المسلحة، رغم ما يعانيه الشعب من أهوال الحرب. (وهذا لا يبرر الإرهاب، بل يصف واقعاً قائماً). من الواضح إذا أن حماس ليس لديها دافع للتخلي عن سلاحها أو عن تمسكها بالمقاومة.
ومع ذلك، يجب مقاومة إغراء محاولة نزع السلاح بالقوة. فمن غير المحتمل أن تنجح قوة متعددة الجنسيات في مصادرة أسلحة حماس. ومصر والأردن – وهما الدولتان الأكثر تأثراً بعدم الاستقرار في غزة – لديهما حذر شديد يمنعهما من مواجهة الحركة. والسعودية والإمارات عادةً تعملان عبر شركاء محليين لا مباشرة، وفي غزة لا يوجد طرف محلي موثوق يمكنهما من خلاله التأثير الفعلي في الميدان.
وفي حين أن نزع السلاح بالقوة مشكوك فيه، فإن الاقناع قد يكون أكثر نجاحا. فعلى الرغم من تشدد حماس الأيديولوجي، فإنها قد أظهرت مرونة وتصرفت بعملية عندما اقتضت الظروف ذلك. فقد قبلت حماس في الماضي بهدن طويلة، وخاضت مفاوضات غير مباشرة، وعدلت استراتيجياتها العسكرية والسياسية وفقاً للضغوط المحلية والإقليمية. فحماس ليست مجرد ميليشيا دينية، بل فاعل سياسي متجذر يتمتع بقدرة عالية على التكيّف.
لذلك، فإن مهندسي القرار 2803 والحكام الجدد لغزة يحتاجون إلى وسائل لإقناع حماس بالتعاون ونزع سلاحها طوعا. اثنان من رعاة الحركة الإقليميين – تركيا وقطر – يشكلان جزءا من خطة ترامب، وإن كان التزامهما بتطبيقها الكامل غير واضح. أما الراعي الثالث، إيران، فخارج المعادلة حتى الآن. وقد أعرب الرئيس ترامب مراراً عن اهتمامه بعقد صفقة مع إيران، بل وأشار إلى إمكانية إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل. إشراك إيران في مسار نزع السلاح قد يكون خطوة أولى في هذا الاتجاه.
كذلك فإن ربط التقدّم في غزة بتحسين الأوضاع في الضفة الغربية – التي تتعرض حالياً لضغط شديد من المستوطنين – وتعزيز الدور الفلسطيني في إدارة غزة يمكن أن يولّدا ضغطاً داخلياً على حماس للتنازل في قضية السلاح.
الضغط الداخلي والإقليمي المتزامن قد يشكلان السبيل الأكثر واقعية لتحقيق تقدّم فعلي على هذا المسار.
يعيد القرار 2803 تنظيم حوكمة غزة وأمنها واقتصادها على نحو غير مسبوق منذ عام 2005. وقد يسهم في خفض العنف مؤقتاً وربما في تحقيق انتعاش اقتصادي. لكن ما لم يواجه داعمو القرار الجذور السياسية لعدم الاستقرار في غزة – في الأيديولوجيا المسلحة، وشبكات الرعاية الإقليمية، والمطالب الفلسطينية بتقرير المصير – فإن الصراع الأعمق سيعود ليظهر مجدداً.