حرب الممرات العالمية

Loading

من منّا لا يتذكر حادثة السفينة العملاقة “إيفرغيفن” التي شلّت شريان التجارة العالمية بإغلاقها قناة السويس لأيام في عام 2021؟  

رغم مرور سنوات ما زالت أصداء تلك الواقعة تتردد حتى اليوم. يومها تابع العالم المشهد لحظة بلحظة، واهتزّت العواصم الكبرى على وقع الأزمة التي عطّلت حركة البضائع ورفعت الأسعار وألحقت خسائر بمليارات الدولارات.  

لم تكن تلك الحادثة مجرّد عارض طارئ في تاريخ الملاحة، بل كانت صفعة أيقظت العالم على حقيقة هشّة: الاقتصاد العالمي بأكمله يمكن أن يتوقف عند نقطة اختناق واحدة في خريطة التجارة. 

منذ ذلك الحين، بدأ سباق عالمي على تطوير ممرات جديدة للتجارة والنفوذ، تسعى من خلالها الدول الكبرى لتأمين سلاسل الإمداد وتقليل الاعتماد على طرق تقليدية يمكن أن تتعطل بفعل النزاعات أو الحوادث الطبيعية. هذه الممرات ليست مجرد طرق شحن، بل هي أدوات استراتيجية يعاد من خلالها رسم خريطة النفوذ العالمي. 

أحد أبرز هذه المشاريع في منطقتنا هو الممر الأميركي المعروف باسم “IMEC”، الذي يربط الهند بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وصولًا إلى أوروبا، عبر شبكة من الموانئ والسكك الحديدية والبنية الرقمية، بتكلفة تقريبية تصل إلى 20 مليار دولار. 

الهدف الرسمي للمشروع، يقول الخبير عارف حسين، وهو زميل أول في المجلس الأطلسي ومدير مكتب البحوث حول الصناعة والأساسيات الاقتصادية (BRIEF) في مقابلة مع الحرة، الذي تم اقتراحه في اجتماع قمة العشرين في نيودلهي عام 2023، هو تجاوز الممرات البحرية الضعيفة مثل البحر الأحمر وقناة السويس، والتي تعرضت لاضطرابات متعددة في السنوات الأخيرة سواء نتيجة هجمات الحوثيين أو الحوادث مثل جنوح السفينة العملاقة إيفرغيفن. هذه الدول، التي تمثل نحو نصف الناتج العالمي، قررت البحث عن مسار بديل لنقل البضائع بين أجزاء العالم المختلفة“. 

ويشير حسين إلى أن المشروع مرتبط أيضًا بمحاولات توسيع اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وبعض دول الخليج، لكنه لم يكتمل بسبب أحداث 7 أكتوبر 2023 التي عطّلت العملية برمتها. 

 “التعطيل لم يكن بسبب مخاوف أمنية فقط، بل مرتبط بالسياسة المحلية في الخليج. الإمارات والسعودية لم ترغبا في دعم المبادرة في ظل مشاركة إسرائيل، وما زال هذا الوضع قائمًا حتى الآن. أي تطوير من الجانب الإماراتي يظل محدودًا ويظهر وكأنه ثنائي مع الهند أكثر من كونه جزءًا من الممر“. 

يقول حسين إن هناك نوعين من البنية التحتية لأي ممر. الأولى مادية، كالموانئ والسكك الحديدية والطرق، والثانية رقمية، لتسهيل العمليات الجمركية وتبادل المعلومات بين الأطراف المختلفة. 

ويضيف، بحسب نتائج دراسته التي نفذها لصالح للمجلس الأطلسي: “على صعيد البنية المادية، هناك رابط بحري من الساحل الغربي للهند إلى الإمارات جاهز للتشغيل. لكن السكك الحديدية من الإمارات إلى ميناء حيفا في إسرائيل ما زالت بها فجوات كبيرة، نحو 2300 أو 2400 كيلومتر بحاجة للتطوير، بعضها مدرج في خطط حكومية مثل مشروع الاتحاد للسكك الحديدية الذي يربط دول مجلس التعاون”. 

ويوضح حسين أن التوقعات تؤكد أن يكون هذا الممر أسرع بنسبة 40٪ مقارنة بمرور البضائع عبر قناة السويس، خصوصًا بعد تحويل بعض السفن لمساراتها إلى طريق أطول هو رأس الرجاء الصالح. أما من حيث التكلفة، فتشير تصريحات حكومية هندية إلى إمكانية تحقيق انخفاض بنسبة تصل إلى 30٪، رغم أن هذه الأرقام ستتضح أكثر بعد التشغيل الفعلي. 

في المقابل، بحسب تقرير من البنك الدولي، صدر عام نوفمبر 2023، يُعد الممر الأوسط الذي تقف وراءه تركيا، ويمر عبر آسيا الوسطى والقوقاز (كازاخستان، أذربيجان، جورجيا)، من البدائل الواعدة لربط آسيا بأوروبا. ويشير البنك إلى أن هذا الممر يمكنه مضاعفة حجم التجارة ثلاث مرات بحلول عام 2030، وتقليص زمن النقل إلى النصف، إذا توفرت الاستثمارات والسياسات المناسبة، إضافة إلى تحسين التكامل بين البنية التحتية المادية والرقمية لتسهيل حركة البضائع.  

طرحت تركيا أيضا ممر التنمية، وأعلنت عنه رسميا عام 2023، وهو مشروع استراتيجي ضخم يهدف إلى ربط الخليج بأوروبا عبر الأراضي العراقية والتركية. 

المشروع يرتبط بميناء الفاو الكبير في البصرة وتم الانتهاء من نحو 60% من التصاميم الخرائطية للمشروع بحسب بيانات وزارة النقل العراقية.  

ويعلق حسين على هذه الممرات، قائلا بأن نجاح أي مشروع لا يعتمد على البنية المادية فقط، بل على التكامل الرقمي والحوكمة المشتركة بين الدول. وهذا ما تحتاجه فعلياً هذه المشاريع.  

في انتظار تحقق أي من هذه المشاريع على أرض الواقع، تظل قناة السويس والبحر الأحمر العمود الفقري للتجارة العالمية في المنطقة. ويؤكد تقرير البنك الدولي أن حوالي 30% من حركة الحاويات العالمية تمر عبر هذه القناة، وأن الهجمات في مضيق باب المندب والاضطرابات الأمنية أدت إلى تحويل السفن لمسارات أطول، مما زاد التكاليف وأطال زمن الشحن.  

يعتبر حسين أن هذه الأرقام تُظهر أهمية تطوير بدائل برية وبحرية للممرات التقليدية، وتبرر المنافسة الشديدة بين القوى العالمية في تطوير الممرات. 

أحد هذه الممرات التي دخلت مجال المنافسة هو الممر الصيني (الحزام والطريق)، وهو شبكة ضخمة تربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى والقوقاز، وتستثمر بكثافة في البنية التحتية البرية والبحريةوحسب حسين، فإن ما دفع الصين لتوسيع شبكتها عبر مبادرة الحزام والطريق هو البحث عن بدائل آمنة ومستقرة لنقل البضائع بعيداً عن الاختناقات والمخاطر الجيوسياسية.  

ومع ذلك، يواجه الممر سلسلة من التحديات المعقدة تعيق توسعه وتأثيره العالمي. فسياسياً تصطدم الصين برفض غربي متزايد، إضافة إلى هشاشة الأوضاع الأمنية في بعض الدول المشاركة، واقتصاديا تثقل الديون كاهل عدد من الشركاء.  

هناك أيضا، الممر الروسي (ممر الشمال)، وهو طريق بحري عبر القطب الشمالي، مختصر صيفيًا لكنه محفوف بالمخاطر المناخية والجيوسياسية. 

يعتبر حسين أن هذه المنافسة اصبحت واقعاً حقيقيا. فبرأيه، “الممرات لم تعد مجرد طرق للشحن، بل هي أدوات لإعادة توزيع النفوذ والسيطرة على الاقتصاد العالمي. كل دولة أو تحالف يحاول أن يضمن لنفسه مركزًا مؤثرًا في شبكة هذه الممرات، والسباق العالمي على الممرات قائم، والدول التي لا تكون جزءًا منه ستبقى خارج دائرة النفوذ الاقتصادي”.