![]()
شهدت مصر هذا الأسبوع انطلاق المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، في لحظة سياسية تتجاوز فكرة “الاستحقاق الدستوري” إلى ما هو أعمق: شكل النظام السياسي نفسه في السنوات المقبلة.
تُجرى الانتخابات على مرحلتين، الأولى شملت 14 محافظة، منها محافظة الجيزة والإسكندرية ومحافظات صعيد مصر يومي 10 نوفمبر و11 نوفمبر، والثانية في الأسبوع الأخير من نوفمبروشمل 13 محافظة، منها القاهرة وبعض محافظات الدلتا ومحافظات شمالي مصر.
سيمتد عمل هذا البرلمان لخمس سنوات تتقاطع بالكامل تقريبا مع الفترة الرئاسية الثالثة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، التي تنتهي في عام 2030، وهي الأخيرة دستوريا وفق تعديلات 2019 التي أقرها مجلس نواب 2015-2020، وجاءت هذه التعديلات بعد سنة واحدة من إعادة انتخاب الرئيس المصري في عام 2018.
تعددية شكلية
المشهد الانتخابي في شوارع القاهرة والجيزة يبدو حيويا: اللافتات تغطي الشوارع، وأعلنت عشرات الأحزاب برامجها، لكن تحت هذا الضجيج تكمن حقيقة أخرى: منافسة محدودة، محصورة في نطاق ضيق.
بحسب تقرير لوكالة “رويترز”، تشارك قائمة واحدة فقط في الانتخابات الحالية تضم تحالف أحزاب الموالاة – كما يُطلق عليها الإعلام المصري والنخبة السياسية – وهي “مستقبل وطن” و”حماة الوطن”، و”الجبهة الوطنية” ما يعني أن نصف مقاعد البرلمان تقريبا محسومة قبل التصويت.
أما النظام الفردي، الذي يفترض أنه مساحة المنافسة الحقيقية، فقد تقلص عدد المرشحين فيه بنسبة 46% مقارنة بعام 2020.
في انتخابات 2020، تنافس 5432 مرشحا على المقاعد الفردية، أما اليوم فلا يتجاوز العدد 2904 مرشحلين، رغم زيادة قاعدة الناخبين إلى 69,3 مليون ناخب بزيادة قدرها 10% تقريبا عن عام 2020.
“هندسة الانتخابات”
النقاش الأوسع حول العملية الانتخابية خرج من داخل المنظومة الإعلامية نفسها. ففي حلقة من برنامج “الحكاية” مع عمرو أديب، تحدث الكاتبان الصحفيان مجدي الجلاد وعماد الدين حسين عما وصفاه بـ “هندسة الانتخابات”، متطرقين إلى أرقام محددة لتوزيع المقاعد بين الأحزاب الكبرى في البرلمان القادم، ليتوقع الجلاد بشكل حاسم عدد المقاعد لكل حزب: لحزب “مستقبل وطن” 125 مقعدا، ولحزب “حماة الوطن” 50 مقعدا، وحزب “الجبهة الوطنية” من 27 إلى 30 مقعدا، وحزب “الشعب الجمهوري” من 12 إلى 14 معقدا.
أشار الجلاد أيضا إلى أن البرلمان المقبل قد يكون استمرارا للنمط القائم من المجالس ذات الطابع الموالي، التي تواجه صعوبة في ممارسة رقابة حقيقية على الحكومة، بينما قال الصحفي عماد الدين حسين، رئيس تحرير جريدة الشروق المصرية، عضو مجلس الشيوخ السابق، المرشح ضمن القائمة الوطنية الحالية لخوض انتخابات مجلس النواب إن 20% من المقاعد الفردية ستكون مفتوحة فعليا للمنافسة، والباقي قد يكون محسوما عبر القوائم أو التفاهمات السياسية المسبقة مع باقي الأحزاب.
لكن الإشكالية الأعمق لا تتعلق فقط بكيفية إدارة العملية الانتخابية، بل بالإطار القانوني الذي ينظمها. أبقت التعديلات التشريعية على نظام القوائم المغلقة المطلقة، الذي يمنح القائمة الفائزة بالأغلبية جميع مقاعد الدائرة، بدلًا من توزيعها وفق نسب التصويت.
ويرى منتقدون أن هذا النظام يقلص من مساحة التمثيل والتعدد داخل البرلمان، ويجعل تشكيله أقرب إلى مجالس تميل للموافقة أكثر من المراجعة وهو ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ “البرلمان التمريري أو الشكلي” أو Rubber Stamp Parliament، حيث تُمرر القوانين والقرارات بأغلبية شبه مطلقة من دون معارضة مؤثرة.
تبرر بعض الأصوات الموالية للدولة الإبقاء على هذا النظام بدعوى ضمان تمثيل الفئات الخاصة مثل النساء والشباب وذوي الإعاقة والأقباط، لكنّ خبراء سياسيين يرون أن هذه الفئات يمكن تمثيلها بسهولة ضمن أنظمة التمثيل النسبي التي تطبقها معظم الديمقراطيات الحديثة.
بين النص الدستوري واحتمالات التغيير
تكتسب انتخابات البرلمان المصري لعام 2025 أهمية مضاعفة، لأنها لا تتعلق فقط بتركيبة المجلس، بل بمستقبل النظام الدستوري نفسه.
فوفقا لتعديلات عام 2019 التي أقرها البرلمان المصري بأغلبية ساحقة، تم مدّ فترة الرئاسة من 4 إلى 6 سنوات، وإضافة مادة انتقالية سمحت للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بمدّ ولايته لتستمر حتى عام 2030 بدلا من 2022.
وبعد خمس سنوات من ذلك، في 2 أبريل 2024، أدى السيسي اليمين الدستورية أمام مجلس النواب لولاية جديدة تمتد حتى عام 2030، وفقا للمادة 144 من الدستور، لتصبح تلك ولايته الثالثة والأخيرة دستوريا.
لكن المادة 226 من الدستور المصري تنص على أن لرئيس الجمهورية، أو لخُمس أعضاء مجلس النواب، الحق في طلب تعديل مادة أو أكثر من الدستور، على أن يناقش البرلمان الطلب ويصوت عليه بموافقة ثلثي الأعضاء قبل طرحه للاستفتاء الشعبي.
هذه الصيغة تجعل البرلمان الجديد الممر الإلزامي لأي تعديل مستقبلي يمكن أن يمسّ مدد الحكم أو يسمح بإعادة الترشح بعد 2030.
ومع امتداد ولايته من مطلع 2026 حتى 2030، يصبح هذا المجلس هو البرلمان الوحيد الذي يملك دستوريا صلاحية تمرير تعديل كهذا خلال فترة السيسي الحالية.
ففي أبريل 2019، أقر البرلمان المصري تعديل المادة 140 في جلسة واحدة تقريبا بموافقة 531 نائبا من أصل 554، ما سمح بمدّ الولاية الرئاسية الحالية ومنح الرئيس حق الترشح مرة إضافية.
المعارضة خارج القاعة
في الوقت الذي تسيطر فيه الدعاية الرسمية على المشهد الانتخابي، تبدو الأصوات الأكثر تأثيرا قادمة من خارج البرلمان، وتحديدا من شخصيات تنتمي إلى النظام القديم نفسه، لكنها تعبّر اليوم عن قلق متزايد من انسداد المجال العام.
ففي حوار نشر في 21 أكتوبر 2025 قال حسام بدراوي، الأمين العام الأخير للحزب الوطني المنحل في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك: “أحبّ الرئيس السيسي وانتخبته مرتين، لكني لن أمنحه صوتي لمرة رابعة، وأرفض أي تعديل للدستور لزيادة المدد،” ووصف الداعين لذلك بـ “المنافقين الأكابر”.
واختتم رسالته بنداء مباشر للرئيس المصري: “أرجوك لا تسمح بتعديل الدستور.. وافتح الباب أمام الرأي الحر”.
في ظل هذا الواقع، تتراجع المشاركة الشعبية تدريجيا. ففي انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة لم تتجاوز نسبة الإقبال نحو 17% من إجمالي الناخبين، وفق البيانات الرسمية، وهو أدنى معدل مشاركة منذ إعادة الغرفة الثانية للبرلمان عام 2020. ويتوقع مراقبون ألا تختلف الصورة كثيرا في انتخابات مجلس النواب الحالية، التي يُنتظر أن تعلن الهيئة الوطنية للانتخابات نتائج مرحلتها الأولى وعدد المشاركين فيها في 18 نوفمبر الجاري.
هذا العزوف لا يعكس فقط فتورا سياسيا، بل شعورا متزايدا لدى قطاعات واسعة من الناخبين بأن نتائج العملية الانتخابية محسومة سلفا، وأن المشاركة فقدت معناها العملي كوسيلة للتأثير أو التغيير.
تبدو انتخابات 2025 في ظاهرها دورة انتخابية جديدة، لكنها في جوهرها إعادة ضبط لبنية الحكم في العقد المقبل. فهي لا تحدد فقط من يشغل مقاعد المجلس، بل تحدد أيضا من يمتلك مفاتيح النصوص القانونية والدستورية ومن يملك تعديلها. وفي بلد شهد تعديلات دستورية مفصلية خلال العقد الماضي، يبقى السؤال: هل سيكون هذا البرلمان خطوة نحو توسيع المشاركة السياسية، أم حلقة جديدة في مركزية القرار؟