![]()
انتهت المرحلة الأسهل وبدأت الأصعب في العملية الانتخابية العراقية التي جرت، الثلاثاء، بعد أن أدلى الناخبون بأصواتهم لاختيار مجلس نواب جديد مكوّن من 329 عضوا يمثلون سكان العراق البالغ عددهم 46 مليون نسمة.
بلغت نسبة المشاركة في انتخابات، الثلاثاء، نحو 55% أي بمشاركة نحو 12 مليون ناخب من أصل 21 مليون يحق لهم التصويت، حسبما أعلنت مفوضية الانتخابات، مقارنة بنحو 41% عن انتخابات عام 2021.
من المقرر أن تعلن مفوضية الانتخابات النتائج الأولية بعد نحو 24 ساعة من إغلاق صناديق الاقتراع، تمهيدا لبدء مارثون تشكيل الحكومة الجديدة، الذي عادة ما يستغرق أشهرا ويحتاج لتوافقات بين المكونات الرئيسية (الشيعة، السنة، الأكراد) لتقاسم المناصب الحكومية واختيار رئيس للوزراء.
يتوقع للانتخابات أن تعيد تشكيل المشهد السياسي في البلاد وتحدد تركيبة مجلس النواب الجديد وتوجهات الحكومة المقبلة، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي والدولي.
داخليا، تأتي الانتخابات وسط تحديات سياسية وأمنية واقتصادية يعاني منها البلد، مع تسجيل غياب بارز لإحدى القوى السياسية المؤثرة (التيار الصدري)، وتغييرات جوهرية في القانون الانتخابي، واستمرار الجدل بشأن الوجود الأميركي العسكري في العراق إذ تسعى بغداد إلى الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع طهران وواشنطن.
وعلى المستوى الإقليمي، تجري عملية الاقتراع بالتزامن مع التغييرات التي شهدتها المنطقة بسبب الحرب في غزة وتراجع النفوذ الإيراني بعد مواجهة الاثني عشر يوما، في يونيو، مع إسرائيل والولايات المتحدة، والمخاوف من تجدد المواجهة وسط ضغوط متزايدة من واشنطن على بغداد بشأن وجود فصائل مرتبطة بإيران داخل البلاد.
الانتخابات التشريعية هي السادسة التي تجري في العراق بعد عام 2003 وتشهد، كالمعتاد، تنافسا محموما على الصعيد الوطني، وكذلك على صعيد المكونات الثلاث الرئيسية (الشيعة والسنة والأكراد).
فالقوى الشيعية تخوض صراعا مفتوحا على القيادة بين الولاء الإقليمي والاستقلال الوطني، ويعاني السنة من غياب زعامة جامعة تجعل تمثيلهم عرضة للتفكك، بينما الأكراد يواجهون أزمة وحدة داخلية تهدد دورهم التفاوضي في بغداد.
يأتي ذلك كله في ظل ترجيحات بتراجع نسبة المشاركة، وخاصة بين الشباب العراقيين، والكثير منهم ساخط على الطبقة السياسية الحاكمة، نتيجة تفشي الفساد ومعدلات البطالة المرتفعة.

كيف تجري العملية؟
بدأت المرحلة الأولى من الانتخابات، الأحد، عبر التصويت الخاص الذي شمل رجال الأمن والعسكريين (1,3 مليون ناخب) والنازحين (نحو 26.5 ألف ناخب).
ترشح نحو 7.7 ألف شخص للمنافسة على الفوز بـ 329 مقعدا في مجلس النواب لولاية تستمر أربع سنوات، معظمهم ينتمون لأحزاب وتيارات سياسية كبيرة ومعروفة، بينما لا يوجد سوى 75 مرشحا مستقلا.
يعود السبب في ذلك بشكل كبير إلى القانون الانتخابي المعمول به حاليا، والمعروف باسم “نظام سانت ليغو المعدل” الذي يمنح القوائم الكبيرة الأفضلية على حساب المرشحين المستقلين والأحزاب الصغيرة، على عكس ما جرى في انتخابات 2021.
بالنسبة لمشاركة المرأة، وضع الدستور العراقي شرطا ينص على أن لا تقل نسبة تمثيل النساء عن 25% من إجمالي مقاعد مجلس النواب (أي نحو 83 مقعدا من أصل 329)، بينما جرى تخصيص 9 مقاعد للأقليات (المسيحيون 5 مقاعد) ومقعد واحد لكل من الصابئة والإيزيديين والأكراد الفيلية والشبك.
الثلث المعطل
ربما يمكن اعتبار عملية الاقتراع، المرحلة الأسهل نسبيا في العملية الانتخابية، لأن ما يأتي بعد إعلان النتائج هي المرحلة الأكثر تعقيدا.
هذا العام، أعلنت مفوضية الانتخابات أن النتائج الأولية ستعلن بعد 24 ساعة من إغلاق صناديق الاقتراع، لكن اعتماد النتائج بشكل نهائي قد يستغرق أسابيع.
بعد إعتماد النتائج، يدعو رئيس الجمهورية الحالي البرلمان الجديد إلى الانعقاد خلال 15 يوما من إعلان النتائج، وهنا تبدأ معركة تحديد الكتلة الأكبر، التي يحق لها ترشيح رئيس الوزراء.
في البداية يجب على مجلس النواب أن ينتخب رئيسا جديدا ونائبين له بالأغلبية المطلقة. بعدها يجب أن ينتخب البرلمان رئيسا جديدا للجمهورية خلال مدة أقصاها 30 يوما من انعقاد الجلسة الأولى بأغلبية ثلثي الأصوات. وجرت العادة أن يكون رئيس الدجمهورية كرديا وفقا لنظام المحاصصة غير الرسمي المعمول فيه في العراق بعد عام 2003، فيما رئيس البرلمان سني، ورئيس الحكومة شيعي.
خلال مدة معينة يجب على رئيس الجمهورية أن يكلَّف مرشح الكتلة الأكبر في البرلمان، بتشكيل الحكومة.
ويُمنح رئيس الوزراء المكلف فترة 30 يوما من أجل إعلان حكومته.
لا تعني الكتلة الأكبر بالضرورة الكتلة التي فازت بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات، بل بالإمكان أن تكون الكتلة التي تتشكل في البرلمان من تحالف لعدة قوى وأحزاب بعد الانتخابات.
عادة ما تخضع عملية اختيار الرئاسات الثلاث للتوافق بين المكونات الرئيسية وتجري في سلة واحدة، أي أن يجري اختيار رئيس الجمهورية من خلال عملية معقدة حسابيا بأغلبية الثلثلين من عدد أعضاء مجلس النواب، بينما يتم تمرير رئيس الوزراء ورئيس البرلمان بالأغلبية البسيطة (النصف زائد واحد).
لكن في الانتخابات الماضية طرأت معضلة جديدة تتمثل بظهور الثلث المعطل.
حكمت المحكمة الاتحادية في ذلك الوقت بأن جلسة نتخاب رئيس الجمهورية يجب أن تجري بحضور أكثر من ثلثي أعضاء مجلس النواب، وهو ما يعني أن أي جهة تتمكن من حشد تحالف يضم ثلث عدد النواب ستكون قادرة على تعطيل انعقاد الجلسة.
تسبب هذا الحكم في تعطيل عملية اختيار رئيس الجمهورية لأشهر في الانتخابات الماضية، مما حدا بزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الفائز الأول في 2021 بواقع 70 مقعدا، إلى الطلب من نواب التيار الصدري الاستقالة وترك العمل السياسي.
استفادت قوى الإطار التنسيقي الشيعي، وهو منافس للصدر، من الحكم وتمكنوا فيما بعد من تشكيل الكتلة الأكبر وترشيح رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، ضمن صفقة مع السنة والأكراد شملت ترشيح عبد اللطيف رئيد رئيسا للجمهورية ومحمد الحلبوسي رئيسا للبرلمان.

منافسة شيعية
في ظل المنافسة الحالية داخل قوى الإطار التنسيقي، الذي يضم أطرافا شيعية مقربة من إيران، فمن المرجح أن يعاد نفس السيناريو وتتأخر عملية تشكيل الحكومة لفترة طويلة، في حال كانت الأرقام متقاربة بين المتنافسين.
تشهد الساحة الشيعية، منافسة حادة بين رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، الذي يسعى إلى ولاية ثانية عبر “ائتلاف الإعمار والتنمية”، وبين نوري المالكي زعيم “دولة القانون”، في وقت يواصل فيه التيار الصدري مقاطعته للحياة السياسية.
في انتخابات 2021، أدى فوز التيار الصدري بالانتخابات إلى أزمة سياسية استمرت أحد عشر شهراً وانتهت بصدام مسلح. هذه التجربة دفعت القوى الشيعية الموالية لإيران إلى إعادة تنظيم صفوفها ضمن “الإطار التنسيقي”، الذي شكّل لاحقاً حكومة السوداني. لكن هذا الإطار نفسه يعاني اليوم من تناقضات داخلية حادة، تتعلق بالزعامة والسيطرة على مؤسسات الدولة.
تقديرات مراكز البحوث العراقية تشير إلى أن مجموع المقاعد الشيعية في البرلمان الجديد سيتراوح بين 180 و190، حيث يرى كثير من المراقبين أن القائمة الانتخابية للسوداني تُعتبر الأوفر حظًا، على الرغم من المالكي وقوى أخرى داخل الإطار تسعى بقوة لمنعه من الحصول على ولاية ثانية.
يشار إلى أن جميع رؤساء الحكومات السابقة لم يتمكنوا من الحصول على ولاية ثانية، عدا المالكي (2006-2014)، وهو سيناريو مرجح بالنسبة للسوداني، بسبب طبيعة النظام القائم على التحالفات بعد الانتخابات وليس قبلها.
تشارك في الانتخابات أيضًا فصائل شيعية قوية مرتبطة بإيران عبر أذرع سياسية تابعة لها، مثل ميليشيا كتائب حزب الله التي تمثلها كتلة “حركة حقوق”، وكتلة “صادقون” بزعامة قيس الخزعلي، قائد ميليشيا عصائب أهل الحق.
في المقابل، تشارك بعض المجموعات الإصلاحية المنبثقة عن الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اندلعت في أكتوبر 2019، لكنها تعاني من انقسامات داخلية ونقص التمويل والدعم السياسي.
اما في المعسكر السني، فتتنافس عدة قوى على الزعامة، أبرزها تحالف “تقدّم” بقيادة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، وتحالف “السيادة” بزعامة خميس الخنجر، وتحالف “عزم” لمثنى السامرائي، إضافة إلى “تحالف حسم” الجديد بزعامة وزير الدفاع ثابت العيساوي.
ومن المتوقع أن يتراوح عدد المقاعد السنية بين 65 و75 مقعداً، وهي نسبة تمنح المكوّن السني وزناً مؤثراً في تشكيل التحالفات داخل البرلمان المقبل. لكن الانقسام بين قياداته قد يحدّ من تأثيره السياسي الفعلي.
اما إقليم كردستان فيدخل الانتخابات وهو أكثر انقساماً من أي وقت مضى. فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني بزعامة بافل طالباني يخوضان منافسة شرسة على تمثيل الإقليم في بغداد، إذ فشلت القوى الكردية في تشكيل تحالف موحد كما حدث في انتخابات 2014 بتشكيل التحالف الكردستاني.
كذلك يشهد الاتحاد الوطني انقسامات حادة منذ وفاة جلال طالباني عام 2017، أبرزها المواجهة المسلحة واعتقال لاهور شيخ جنكي (زعيم جبهة الشعب) ورئيس حركة “الجيل الجديد” شاسوار عبد الواحد، ما يثير مخاوف المعارضة من “تصفية سياسية” وترسيخ للنفوذ التقليدي.
تتنافس القوائم الكردية على 46 مقعداً مخصصة لمحافظات الإقليم الثلاث، وقد يصل التمثيل الكردي الإجمالي إلى نحو 70 مقعداً مع مقاعد المناطق المتنازع عليها (نينوى، كركوك، ديالى، صلاح الدين).
بالنهاية حتى لو فازت قوائم معينة بأغلبية نسبية، فمن المرجح أن تبقى عملية تشكيل الحكومة تفاوضية مع شراكة بين القوى الشيعية والكردية والسنية.
القانون المُعدّل يميل إلى تعزيز النفوذ الحزبي التقليدي، ما يقلّص فرص تحول جذري عبر البرلمان.
وفي النهاية، الأمر سيعتمد على نسبة المشاركة الشعبية ومدى قبول النتائج محليًا ودوليا، في ظل مقاطعة الصدريين.
يشار الى أن الانتخابات الماضية شهدت النسبة الأكثر تدنيا في تاريخ الانتخابات العراقية بعد مشاركة 41 بالمئة فقط من عدد الناخبين.