![]()
بعد سنوات من الغياب، تعود الشركات الأميركية العملاقة، في مجال النفط والطاقة، إلى العراق، بعقود تصل إلى مليارات الدولارات، للعمل في حقول تمتد من البصرة جنوبا إلى الموصل شمالا.
خلال شهر أكتوبر فقط، وقع العراق ثلاث عقود كبرى مع شركات أميركية في سياق سلسلة من الصفقات المهمة التي جرى إبرامها مع شركات أميركية أخرى منذ مطلع هذا العام.
في المقابل، تواجه شركات منافسة صعوبات للاستمرار بالعمل في العراق، وخاصة الشركات الروسية، مثل “لوك أويل” التي تشير تقارير إلى نيتها وقف عملياتها في البلاد بسبب العقوبات الأميركية.
وتثير عودة الشركات الأميركية إلى العراق تساؤلات عدة عن الدوافع والتوقيت.
“شركات النفط الأميركية والأجنبية اندفعت نحو العراق بعد عام 2003 بحثا عن الفرص، لكن شروط العقود لم تكن جيدة أبدا، لتضطر شركات مثل إكسون موبيل إلى الانسحاب أو تقليص استثماراتها،” يقول لـ”الحرة” ماثيو ريد، نائب رئيس شركة “فورين ريبورتس” الاستشارية الأميركية.
ويضيف بأن “السبب وراء عودة الشركات الآن هو أن العراق حسَّن شروطه التجارية، مؤخرا أدركت بغداد أنها بحاجة إلى تقديم شروط أفضل لجذب أفضل الشركات، بما في ذلك الأميركية والفرنسية والبريطانية”.
ويقول عبد الرحمن المشهداني، عضو الفريق الاستشاري لدعم الصناعة في الحكومة العراقية لـ”الحرة” إن بغداد تكسب “ود الأميركان باعتبارهم صاحب القرار الأول والأخير على مستوى العالم”.
تأتي الاستعانة بالشركات الأميركية في توقيت حساس بالنسبة للعراق، يتمثل في إجراء انتخابات برلمانية عامة، قد تغير نتائجها موازين القوى في البلاد، وتعيد تشكيل العلاقة المتأرجحة بين بغداد وواشنطن منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في يناير الماضي.
وطالما كانت بغداد صعبة المراس في شروطها، إلا إنها غيّرت قواعد اللعبة هذا العام، وقدّمت عروضاً مغرية جعلت الشركات الأميركية تعيد حساباتها.
في أكتوبر الماضي، وقع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اتفاقية أولية مع إكسون موبيل لتطوير حقل مجنون، أحد أكبر حقول النفط في العالم. يحتوي الحقل على احتياطيات تصل إلى 12.6 مليار برميل. وقبل إكسون موبيل، تعاقدت الحكومة العراقية مع شركة شيفرون في أغسطس لاستكشاف أربع رقع استكشافية في الناصرية، جنوبا، وتطوير حقل بلد وسط البلاد، وكذلك أبرمت تعاونا مشتركا بين شركة “بيكر هيوز” وشركة حلفايا الحكومية العراقية لتطوير الغاز.
وخلال عام 2024 وقعت بغداد مع “كي بي آر” عقدا بقيمة 12 مليون دولار للهندسة في حقل بن عمر.
يحتل العراق المرتبة الخامسة عالمياً في احتياطيات النفط المؤكدة (145 مليار برميل) بعد كل من فنزويلا، والسعودية، وإيران، وكندا، والثانية في منظمة أوبك من حيث الإنتاج (حوالي 4.5 مليون برميل يومياً).
“العراق يُعَدّ واحداً من آخر معاقل النفط السهل. فالمخاطر الجيولوجية شبه معدومة والاحتياطات ضخمة للغاية، وطالما كان الوضع الأمني مقبولا والشروط التجارية تنافسية، فإن العراق سيجذب الاستثمارات، لأنه لاعب كبير لا يمكن تجاهله،” يقول جيم كرين، محلل شؤون الطاقة في معهد بيكر بجامعة رايس الأميركية.
يشير كرين إلى أن شركات النفط الأميركية الكبرى ترددت لفترة طويلة في العودة، لأن الحكومة العراقية كانت تصرّ على عقود خدمية تدفع رسوماً ثابتة وتمنع الشركات من الاستفادة من الأرباح الإضافية.
“كانت الشروط غير مشجعة لدرجة أن شركات النفط العالمية فقدت الاهتمام وغادرت البلاد. لكن الآن، بعد أن سمحت بغداد لتلك الشركات بالمشاركة في الأرباح، أصبحت هناك إمكانية أكبر لتحقيق مكاسب” يضيف كرين لـ”الحرة”.
كانت وزارة النفط العراقية قد أطلقت جولات تراخيص نفطية في عام 2009، تحدد أجورا معينة لكل برميل مع هوامش ربح قليلة.
قبل إبرام هذه العقود النفطية، وسعت شركة جنرال إلكتريك فيرنوف عملياتها في قطاع الكهرباء بتوقيعها اتفاقا في أبريل الماضي تعهدت فيه بإضافة 24 ألف ميغاوات من الطاقة الغازية إلى شبكة الكهرباء الوطنية، حيث تعاني البلاد من شح مزمن للطاقة منذ عقود.
أما الأسبوع الأخير من أكتوبر فقد شهد التوقيع مع شركتيت أميركيتين، الأولى هي “أكسيليريت إنرجي” لبناء منصة عائمة للغاز عند ميناء خور الزبير، هي الأولى من نوعها في البلاد.
كذلك أرسى العراق عقدا استثماريا لتطوير مطار بغداد الدولي وتشغيله إلى إئتلاف تقوده شركة “كوربوراسيون أميركا” الأميركية.
بالتالي يمكن الإشارة إلى أن قطاعي النفط والغاز يسيطران على 80% من النشاط الأميركي، حيث يُعتبر العراق فرصة استراتيجية للشركات الأميركية لمواجهة المنافسة الصينية والأوروبية.
على مدى العقدين الماضيين، كانت العلاقة بين العراق والشركات الأميركية متذبذبة، وكانت تلك الشركات توقع عقودا، لكنها لا تلبث أن تنسحب بعد عام أو عامين، لعدة أسباب، معظمها أمني وبعضها اقتصادي. لكن، اليوم يبدو أن الوضع اختلف بعض الشيء، فالانفتاح العراقي متوفر والجدوى الاقتصادية والأمن كذلك، وفقا للمشهداني.
“سبب أساسي آخر هو استقرار البيئة الاستثمارية في العراق، سواء على الصعيد الأمني أو على صعيد الإجراءات البيروقراطية، الروتين والفساد، والتي كانت تعيق دخول الشركات الأميركية،” يضيف المشهداني.
سياسيا، للقصة أبعاد أخرى.
الأسبوع الماضي نشر المكتب الاعلامي للسوداني مقتطاف من مقابلة أجراها مع وكالة رويترز وتضمنت الإشارة إلى ما يجري بين بغداد وواشنطن، على صعيد دخول الشركات الكبرى.
قال السوداني إن “المرحلة الحالية هي الأوضح في تاريخ العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، وخصوصاً مع الدخول الكبير والنوعي للشركات الأميركية”.
كما تحدث عن توقيع عدة عقود “مهمة” مع الشركات الأميركية، في مجالات الطاقة وإنتاج النفط واستثمار الغاز، وأشار إلى وجود “علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة مبنية على تحقيق المصالح المتبادلة”.
من هنا يرى محللون أن اندفاع السوداني نحو توقيع صفقات جديدة مع الشركات الأميركية لا يرتبط فقط بالاعتبارات الاقتصادية، بل يشكل رهانًا على “البقاء السياسي، له وللعراق معًا”.
“مع اقتراب موعد الانتخابات، يحتاج السوداني إلى انتصارات اقتصادية جديدة ليحافظ على زخمه السياسي ويحوّله إلى أصوات انتخابية،”، يقول رعد القادري المدير في مجموعة بوسطن للاستشارات في تحليل نشره المجلس الأطلسي الشهر الماضي.
كما أن تحركات السوداني تعكس، وفقا للقادري، قلقًا من تصاعد التوتر مع واشنطن واحتمال فرض عقوبات على قطاع النفط بسبب علاقات بغداد مع طهران.
ويعتقد القادري كذلك أن السوداني يحاول استمالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر إغراءات استثمارية، مستلهمًا تجربة إقليم كردستان الذي استخدم صفقات الطاقة لتعزيز نفوذه السياسي في واشنطن.
ويرى القادري أن السوداني، يحاول تكرار التجربة على نطاق أوسع بكثير، مستخدمًا العقود النفطية “كسيفٍ ودرعٍ في آنٍ واحد.. درع ضد العقوبات الأميركية، وسيف لكسب الدعم السياسي”.
يرجح مراقبون أن يواجه ائتلاف السوداني منافسة شرسة، أثناء وبعد الانتخابات التشريعية التي جرت الثلاثاء، من جانب ائتلاف دولة القانون الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
“بالتأكيد يسعى السوداني لتحقيق الدعم الأميركي والدعم الدولي باعتبار أن فترة الـ3 سنوات التي قضاها في رئاسة الوزراء هي فترة قصيرة ويحتاج للمزيد للمضي قدما في سياساته،”، يقول المشهداني.
“لكن بالنهاية الوصول للولاية للثانية لا يعتمد فقط على هذا الدعم، بل يعتمد بشكل أكبر على نتائج الانتخابات وطبيعة التحالفات التي ستتشكل بعد ذلك،” يضيف المشهداني.