![]()
تركيا أردوغان الجديدة – رغم نزعتها غير الليبرالية – يمكنها أن تسهم في إرساء السلام في الشرق الأوسط.
مصطفى أكيول زميل أقدم في مركز كاتو للحريّة والازدهار العالمي، يركّز في أبحاثه على تقاطع السياسات العامة مع الإسلام والحداثة. يمكن متابعته على منصة X عبر الحساب:@AkyolinEnglish.
في التاسع من أكتوبر 2023، بعد هجمات حماس على إسرائيل بيومين فقط، أدلى بولنت أرينتش، أحد المقربين من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتصريحات لافتة لم تلقَ اهتماما كبيرا خارج تركيا. “نحن جميعا نحب فلسطين”، قال أرينتش لجمهوره من الأتراك، لكنه أضاف أن الطريق الوحيد للمضي قدما هو حلّ الدولتين، بحيث تكون كلٌّ من إسرائيل وفلسطين “دولتين مستقلتين داخل حدودهما”. ومع ذلك، عبّر عن استيائه قائلا: “لا يمكننا أن نقنع غزة [بقبول] هذا… إنهم يصرون على رفض الاعتراف بإسرائيل”.
ثم انتقد أرينتش حركة حماس قائلا إنها تواصل إطلاق الصواريخ على إسرائيل لتتلقى بعدها “أمطارا من القنابل فوق رؤوسها”. وسأل: “لماذا تفعلون ذلك؟ ما الفائدة لنا؟ لقد قلنا لهم: لا تفعلوا هذا، أنتم تضعوننا في موقف صعب، لكنهم لا يصغون”.
تصريحات أرينتش كشفت بوضوح عن طبيعة العلاقة المعقدة بين أنقرة وحماس، التي طالما أغضبت إسرائيل وحلفاءها: فتركيا تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الحركة، لكنها في الوقت ذاته تشجّعها على سلوك طريق أكثر اعتدالا.
خطرت هذه الفكرة على بالي مرات عديدة خلال الأشهر القليلة الماضية، مع انتشار تحليلات تصف تركيا بأنها “الخطر القادم” على إسرائيل بعد هجماتها المدمرة على إيران ولبنان وسوريا. وذهب بعض المعلقين أبعد من ذلك، مصوّرا تركيا على أنها بؤرة “صحوة إسلامية” جديدة “تهدد استقرار الشرق الأوسط والمتوسط وأوروبا”. هذه الطروحات التحذيرية المبالغ فيها، والتي تنبأ بعضها بحرب تركية-إسرائيلية، لا تبدو فقط مفرطة في المبالغة. إنها تخاطر أيضا بتقويض إمكانية قيام تركيا بدور صانع سلام في الشرق الأوسط، كما فعلت في تعاونها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أولا لإرساء الاستقرار سوريا ما بعد الأسد ، ثم في مساعي وقف إطلاق النار في غزة.
لماذا؟
الواقع أنه من غير المرجح أن تختفي طموحات الشعب الفلسطيني الوطنية، ولا مشاعر التضامن مع الفلسطينيين في أرجاء العالم الإسلامي. السؤال هو: كيف يمكن توجيه تلك المشاعر؟ منذ الثمانينيات، حاول النظام الإيراني، و”محور المقاومة” المرتبط به، استثمار هذه المشاعر، داعيا إلى تدمير إسرائيل ومغذّيا ثقافة العنف عبر شبكة من الوكلاء: النظام السوري، حزب الله، الحوثيون، وحماس.
وكانت النتيجة كوارث متكررة على الفلسطينيين أنفسهم. لكن هناك خيارا آخر – معتدلا – يرى أن تحرير فلسطين لا يتحقق إلا ضمن حلّ الدولتين. هذه، في جوهرها، هي المواقف الرسمية لتركيا منذ عقود، وقد كررها أردوغان نفسه في خطاباته.
لهذا، فإن في الشرق الأوسط الجديد، حيث لم تعد سوريا تابعة لإيران بل حليفة لتركيا، وحيث تتطلع حماس، لا إلى طهران، بل إلى أنقرة والدوحة، قد تكون هناك مساحة أوسع للدبلوماسية وفرصة أكبر للسلام.
الحقائق التركية
لكن ذلك لا يعني أن علينا أن نتجاهل المخاوف من نزعة أردوغان السلطوية. فأنا من بين أشد منتقدي الرئيس منذ تحوّله نحو الشعبوية غير الليبرالية في العقد الماضي، وما رافقها من تراجع في حرية التعبير وحكم القانون. وتثير الاعتقالات المستمرة التي طالت قيادات الحزب المعارض الرئيسي، بمن في ذلك رئيس بلدية إسطنبول، تساؤلات حول نزاهة الانتخابات المقبلة. من زاوية القيم الليبرالية والمعايير الديمقراطية، قصة تركيا اليوم محبطة، وربما درسا يستلزم اليقظة.
لكن، للأسف، إن كنا نطمح إلى إرساء سلام في الشرق الأوسط، فليس بمقدورنا الانتظار حتى تصبح الدول كي تصبح ديمقراطيات ليبرالية، خصوصا في وقت تعيش فيه الديمقراطيات الليبرالية القائمة ذاتها أزمات داخلية. بدلا من ذلك، يمكننا أن نقدّر القادة عندما يسهمون في تعزيز السلام الدولي، بغضّ النظر عمّا نعتقده بشأن سياساتهم الداخلية. قد يصعب تقبل هذا الفصل الدقيق بين الأمرين، حتى داخل الولايات المتحدة، لكنه ضرورية.
هذا الفصل مطلوب أيضا عند الحديث عن رؤية “تركيا الجديدة” بزعامة أردوغان للعالم. ففي الغرب، كثيرا ما تُوصَف بأنها “إسلامية”، وهو توصيف يثير الخوف لأنه يذكّر الناس بالجهاديين العنيفين مثل تنظيم القاعدة، وبالأنظمة الثيوقراطية القمعية مثل إيران. ومع ذلك، فإن الإسلام السياسي – وهو مصطلح فضفاض يشير ببساطة إلى ممارسة السياسة بالاستناد إلى مرجعيات إسلامية – يرتكز على طيف واسع جدا. ويقع في طرفه المعتدل تيارات براغماتية مثل حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، اللذَين لا يختلفان كثيرا عن تيارات “اليمين الديني” في الغرب.
فعلى مدى 23 عاما من حكم أردوغان، لا تزال تركيا عضوا في الناتو، وجمهورية علمانية لا أثر فيها لحكم الشريعة. اقتصادها رأسمالي، منفتح على السياح والمستثمرين، ومجتمعها متنوعة، يجمع بين المساجد والنوادي الليلية، وحيث تُفرض على الكحول ضرائب مرتفعة لكنه غير محظور، وبينما يهاجم المحافظون الداعمون للأسرة البرامج ذات الموضوعات المثلية على “نتفليكس” – مثل نظرائهم المسيحيين في الولايات المتحدة – لا توجد “شرطة دينية” تجوب الشوارع. وقد تبيّن أن علمانية كمال أتاتورك الصارمة كانت راديكالية إلى حدٍّ جعل من الصعب استمرارها في بلد ذي أغلبية مسلمة، لكنها في الوقت نفسه خلّفت آثارا عميقة طالت الجميع، بمن فيهم المعارضون الدينيون أنفسهم.
أجندة السلطان أردوغان
والقدر نفسه من التمييز مطلوب أيضا لفهم ما يُعرف بـ”العثمانية الجديدة” في تركيا، التي قد تبدو مخيفة حقًا لو كانت تعني بناء إمبراطورية جديدة عبر الغزوات العنيفة والهيمنة السياسية. لكن بالنسبة لأردوغان والمقرّبين منه، يبدو أن “العثمانية الجديدة” تعني استخدام القوة الناعمة في الأراضي التي كانت خاضعة سابقا للإمبراطورية العثمانية في البلقان والشرق الأوسط، إلى جانب شعور بالمسؤولية تجاهها – وهو أمر مقبول طالما يؤدي إلى تعاون سياسي، وتكامل اقتصادي، وصناعة سلام.
مثل هذه “العثمانية الجديدة”، التي تنطوي أيضا على قبول بالتعددية الدينية والإثنية، أثبتت فائدتها بالفعل للأقليات اليهودية والمسيحية في تركيا، وأسهمت كذلك في معالجة مشكلة تركيا التاريخية المزمنة: المسألة الكردية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون أردوغان، الذي كان تياره أكثر انفتاحا على الأكراد مقارنة بالقوميين الأتراك العلمانيين، منخرطا اليوم في عملية سلام مع حزب العمال الكردستاني – وهي عملية، إن نجحت، فستشكّل إنجازا تاريخيا للطرفين، الأتراك والأكراد معا، ولصالح تركيا نفسها، وكذلك العراق وسوريا.
لكن، للأسف، الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تعارض بشدة أي دور لتركيا في مرحلة ما بعد الحرب في غزة، تبدو غير مهتمة بكل هذه الفوارق الدقيقة. يقول عيمخاي شيكلي، الوزير في حكومة نتنياهو: “تركيا تدعم حماس، إنها معادلة بسيطة جدا.”
لكن الواقع أقل بساطة بكثير. فحتى الآن، تمكّنت إسرائيل من إنقاذ رهائنها أساسا بفضل وساطة قدّمتها قطر – التي تعرّضت للقصف الإسرائيلي رغم جهودها – وكذلك تركيا، التي “مارست ضغوطًا كبيرة على قيادة حماس”، وفق ما ذكرته صحيفة يديعوت أحرونوت في تقرير استثنائي عن رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن. كما أكّد مسؤول أميركي أن “الأتراك لعبوا دورا مهما في التوصل إلى اتفاق غزة”، قبل أن يضيف: “إن هجوم نتنياهو المستمر على تركيا كان ذا نتائج عكسية تماما.”
في الواقع، قد لا يكون من الحكمة أن يتحدّى القادة الإسرائيليون جميع الفاعلين المسلمين الذين يتبنون موقفا مؤيدا للفلسطينيين، لكنهم في الوقت نفسه صادقون في سعيهم إلى السلام – إلا إذا كانت استراتيجي القادة الإسرائيليين الحقيقية هي السعي إلى الهيمنة الإقليمية عبر إضعاف جميع “الدول القوية” في المنطقة، كما أشار السفير الأميركي لدى تركيا، توم باراك، بلهجة نقدية. لكن مثل هذا النهج لا يمكن أن يشكّل حلا من أي نوع، لأنه لن يؤدي إلا إلى حرب دائمة ومزيد من الدمار على جميع الأطراف.
في هذه الأثناء، وبالعودة إلى واشنطن، ينبغي أن تتحول الغاية التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب منذ زمن – إنهاء “الحروب التي لا تنتهي” – إلى سياسة دائمة. ويتطلّب ذلك كبح الطموحات التوسعية لإسرائيل، التي شكّلت دائما جزءا أساسيا من المعضلة الحديثة في الأرض المقدسة. وهذا بدوره يستلزم وجود شركاء مسلمين يتمتّعون بالشرعية في أنحاء المنطقة، ولديهم في الوقت نفسه نفوذ على القوى التي يجب دفعها إلى الاعتدال. وفي مقدّمة هؤلاء، سواء كنت تحبه أم لا، يأتي الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي ينبغي الترحيب باستعداده للعمل مع “صديقي دونالد ترامب” من أجل إحلال السلام.