![]()
في تصعيد جديد يكشف عمق الأزمة بين حزب الله ومؤسسات الدولة اللبنانية، شنّ الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، هجوماً مباشراًعلى كلّ من حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد، ووزير العدل، عادل نصّار، متّهماً إياهما بـ”تنفيذ أوامر أجنبية”، في إشارة إلى التعاميم الأخيرة التي أصدراها بتشديد الرقابة على التحويلات المالية و”الجهات المشبوهة” التي تقوم بها.
وتعبّر تصريحات قاسم، في 21 أكتوبر، عن احتقان داخلي متزايد داخل الحزب إزاء ما يعتبره “استهدافاً ممنهجاً” لبنيته المالية وبيئته الاجتماعية والاقتصادية، إذ قال إن “حاكم مصرف لبنان ليس موظفاً عند أميركا كي يضيّق على المواطنين بأموالهم، ووزير العدل ليس ضابطة عدلية عند أميركا وإسرائيل”، داعياً الحكومة إلى “وضع حدّ” لذلك.
ويأتي هذ الهجوم في ظل ضغوط دولية متزايدة على لبنان، بعد خسائر حزب الله في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، ترافقت مع إصدار السلطات اللبنانية تعاميم مصرفية وقرارات رقابية تقيّد حركة الأموال وتشدد الإشراف على التحويلات والمعابر الحدودية، فيما يعدّ توجهاً منسجماً مع العقوبات الدولية المفروضة على الحزب.
وتشكّل التطورات فصلاً جديداً من “الحرب الصامتة” التي تخوضها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد حزب الله. هذه المواجهة لا تدور في الميادين العسكرية التقليدية، بل عبر حصار اقتصادي وعقوبات تهدف إلى تجفيف منابع تمويل الحزب، الشريان الحيوي لذراعه العسكرية وشبكته الاجتماعية والاقتصادية الممتدة حول العالم.
حملة محكمة
تعتمد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سياسة ممارسة أقصى درجات الضغط على إيران ووكلائها، مثل حزب الله، كما هو وارد في مذكرة الأمن القومي الرئاسية رقم 2 الصادرة في 4 فبراير.
وتوسّعت هذه الملاحقات في الأشهر الماضية لتشمل المؤسسات المالية التي تسهّل للحزب – المصنّف منظّمة إرهابية منذ عام 1997 – بجناحيه السياسي والعسكري.
وفي يوليو الماضي، وجّهت واشنطن ضربة جديدة لحزب الله تمثلت في فرض عقوبات على سبعة مسؤولين كبار وكيان واحد على صلة بـ”جمعية القرض الحسن” التابعة للحزب، والتي أدرجها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية على قائمة العقوبات عام 2007.
وأعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية أن هؤلاء المسؤولين شغلوا مناصب إدارية عليا فيه، وسهّلوا التهرّب من العقوبات الأميركية، مما مكّن حزب الله من الوصول إلى النظام المالي الرسمي.
يذكر أن الأمين العام السابق للحزب، حسن نصر الله، شملته العقوبات الأميركية منذ مايو 2018، في خطوة تؤكد أن الاستراتيجية الأميركية لا تستهدف فقط الشبكات المالية، بل البنية القيادية للحزب نفسه.
وكان مصرف “جمال ترست بنك” قد اضطر إلى تصفية نفسه نتيجة العقوبات الأميركية، التي فرضت عليه، لـ”تقديمه خدمات مصرفية للحزب”.
وبدوره، أقرّ الكونغرس الأميركي في نوفمبر 2015 قانوناً خاصاً بفرض عقوبات على المؤسسات المالية المتعاملة مع الحزب، ما أجبر العديد من المصارف اللبنانية على إقفال حسابات مرتبطة به أو بأفراد يشتبه بعلاقتهم به خشية تعرّضها للعقوبات المالية.
ولم تقتصر المواجهة الأميركية على الأدوات المالية فحسب، بل امتدت إلى الحرب على المعلومات من خلال برنامج “مكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأميركية، والذي يخصّص ملايين الدولارات لأيّ معلومة تؤدي إلى كشف شبكات تمويل الحزب.
هذه السياسة الأميركية وجدت صدى واسعاً في الخارج. فقد صنّفت كندا وهولندا وبريطانيا وألمانيا وأستراليا حزب الله منظّمة إرهابية بجناحيه السياسي والعسكري. وفي أميركا الجنوبية، حيث تنتشر شبكات الحزب التجارية غير المشروعة، حظرت الأرجنتين الحزب عام 2019 بعد اتهامه بتفجير مركز الجالية اليهودية في بوينس آيرس، وكذلك كولومبيا وباراغواي وغواتيمالا وهندوراس بعد اتهامه بالتورّط في غسل الأموال وتجارة المخدرات.
أما دول مجلس التعاون الخليجي، فصنّفت الحزب كمنظّمة إرهابية منذ عام 2016، وفرضت عقوبات صارمة على أيّ جهة تتعاون معه، رداً على مشاركته في الحرب السورية إلى جانب نظام الرئيس السابق بشار الأسد وتأجيجه الصراعات الإقليمية.
وذكرت وسائل إعلام لبنانية مؤخراً أن الأجواء في واشنطن تشير إلى أن الإدارة الأميركية تدرس فرض عقوبات على شخصيات ومكوّنات لبنانية تقوم بمساعدة «حزب اللّه» ماليًّا.
شبكة تمويل عابرة للقارات
تشير تقديرات أميركية إلى أن حزب الله يعتمد على نحو مليار دولار سنويّا من خلال الدعم المالي المباشر الذي يتلقاه من إيران، والأعمال والاستثمارات الدولية وشبكات الجهات المانحة وأعمال الفساد وأنشطة غسيل الأموال، وفق ما يشير إليه برنامج “مكافآت من أجل العدالة”.
كذلك، كشف تقرير لوزارة المالية الكندية بعنوان “تقييم مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب لعام 2025″، أن الحزب يستخدم أساليب تمويل متنوعة لدعم عملياته، بما في ذلك استغلال قطاعات الخدمات المالية والمصرفية والعمل الخيري، واستخدام العملات المشفرة والقيام بأنشطة إجرامية.
كما أشار التقرير إلى أن حزب الله لاعب نشط في تجارة الكوكايين والهيروين والفينتانيل والكبتاغون عبر شبكات تمتد من أميركا الجنوبية إلى كندا والولايات المتحدة، وأنه يستغل مونتريال لشحن سيارات فاخرة مستعملة وتحويل عائداتها إلى لبنان.
وفي جلسة لمجلس الشيوخ الأميركي بعنوان “عمليات حزب الله في أميركا الجنوبية”، ذكر الخبير الأميركي في شؤون الإرهاب ماثيو ليفت أن نشاط الحزب يمتدّ إلى المثلّث الحدودي بين الأرجنتين والبرازيل والباراغواي، في كولون في بنما، وإيكويكي في تشيلي، ومايكاو في كولومبيا، مشيراً إلى أنّ هذه المناطق أصبحت “ثقوباً سوداء” لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، داعياً إلى إقرار مشروع القانون CLEAN-FTZ Act لمراقبة وتنظيم المناطق الحرة.
وفي الشرق الأوسط، وثّقت تقارير أمنية تعاون الحزب مع نظام الأسد السابق في إنتاج الكبتاغون داخل سوريا، قبل أن تبدأ الحكومة السورية الجديدة بمحاربة هذه التجارة غير المشروعة ومكافحة التهريب عبر الحدود.
وتوضح الباحثة في الجرائم المالية والاقتصادية محاسن مرسل لموقع “الحرة” أن الحزب يعتمد اليوم على قنوات الاقتصاد الموازي أو ما يعرف بـ”الاقتصاد الأسود”، القائم على غسل الأموال والتهرّب الضريبي والجمركي، “وهي مساحات تحاول السلطات اللبنانية ضبطها تدريجيّا”.
لبنان في قلب المعركة
في الداخل اللبناني، أصبحت عمليات التمويل أصعب على حزب الله بعد حربه الأخيرة مع إسرائيل ومن ثم سقوط نظام الأسد.
خلال الحرب، استهدفت إسرائيل، فروع جمعية “القرض الحسن”. وتطبيقاً لقرار وقف النار، أصدرت السلطات اللبنانية إجراءات أمنية على المعابر والمطار، ومنعت هبوط شركات الطيران الإيرانية، وفصلت عشرات الموظفين للاشتباه بانتمائهم للحزب.
كما تزايدت الإجراءات التي تعكس الانخراط الرسمي، ولو بشكل غير معلن، في حملة الخنق المالي. فقد أصدر مصرف لبنان في سبتمبر الماضي، التعميم رقم 170 الذي يحظر على جميع المؤسسات المالية التعامل مع كيانات غير مرخّصة مثل جمعية “القرض الحسن”، و”شركة التسهيلات”، و”اليسر للتمويل”، و”بيت المال للمسلمين”، وغيرها من المؤسسات المشابهة المدرجة على لوائح العقوبات.
ويهدف التعميم، وفق الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق والصحفي الاقتصادي، خالد أبو شقرا، إلى “الحد من المخاطر المالية المرتبطة بالعقوبات الأميركية والدولية، خصوصاً مع تصنيف لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، ما يجعل أيّ تعامل مع جهات مخالفة عرضة لمشكلات كبيرة للمصارف والمستثمرين”، ويعتبر في حديث لموقع “الحرة” أن “التعاميم التحذيرية وحدها لا تكفي، وأيّ تهاون قد يقوّض الثقة بالنظام المالي”.
“يعمل مصرف لبنان، عبر هيئة التحقيق الخاصة، بالتعاون مع وزارة العدل وسفارات غربية مثل ألمانيا وفرنسا وأستراليا والولايات المتحدة، إضافة إلى وحدة EU Global Facility، لدعم جهود مكافحة تبييض الأموال وتعزيز شفافية المعاملات المالية، رغم أن المصرف لا يملك سلطة إلغاء ترخيص جمعيات أو مؤسسات مدنية، إذ يتطلب ذلك قراراً قضائيّا”، وفق أبو شقرا.
كما يسعى المصرف إلى تشديد إجراءات حماية القطاع المصرفيّ من أيّ اختراق خشية تعرّضه للعقوبات، لكن “قدراته تبقى محدودة، إذ لا يستطيع الخوض علناً في ملف قنوات تمويل حزب الله، التي تعدّ الركيزة الأساسية لقوّة الحزب إلى جانب سلاحه”، كما تؤكد مرسل.
وإلى جانب إجراءات المصرف المركزي؛ أصدر وزير العدل اللبناني، عادل نصّار، في شهر أكتوبر الحالي، تعميماً حمل الرقم 1355، حظر بموجبه على “كتّاب العدل” إجراء أيّ معاملة لأشخاص أو جهات مدرجة على لوائح العقوبات الدولية.
ويؤكد أبو شقرا أن “هذا التعميم رغم أهميته، يبقى ناقصاً”، ويدعو إلى إقرار مشروع تعديل القانون رقم 44/2015 المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والذي “يقترح إجراءات عملية إضافية، مثل إلزام كتّاب العدل بعدم قبول الدفعات النقدية وتسديد الرسوم عبر أمانات مالية مركزية لدى وزارة المالية، وإلزام المحامين والمحاسبين وقضاة التنفيذ بتحويل مستحقاتهم عبر البنوك، ما يتيح تتبّع الحركات المالية بشكل دقيق”.
ولا يزال الاقتصاد اللبناني يعتمد، إلى حدّ كبير، على التبادل النقدي (الكاش) في التعاملات اليومية للمواطنين، وهو يصعّب مهمّة ضبطها.
ويشكّل الاقتصاد النقدي، الذي يتجاوز نصف الناتج المحلي الإجمالي، الثغرة الأبرز في منظومة الرقابة المالية، كما يعتبر أبو شقرا، الذي يشدد على أن ذلك “يجعل إعادة هيكلة القطاع المصرفي والتحوّل إلى التحويلات غير النقدية خطوة أساسية لضمان الاستقرار المالي ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”.
خنق بطيء لكنه فعّال
تبدو الأزمة المالية التي يعيشها حزب الله اليوم أعمق من مجرّد ضائقة عابرة. فمع تقلّص الدعم الإيراني وتزايد القيود الداخلية والدولية، يجد الحزب نفسه أمام تحدّ وجودي يطال بنيته الاجتماعية وقدرته على الحفاظ على قاعدته الشعبية، خصوصاً بعد تعليق دفع تعويضات إعادة ترميم المنازل.
وقد آثر الحزب رمي الكرة في ملعب الدولة اللبنانية، التي حمّلها قاسم، مسؤولية إعادة الإعمار، في محاولة لنقل عبء الأزمة المالية إلى مؤسسات الدولة العاجزة أساساً عن تحمّل أعباء جديدة.
ويشير أبو شقرا إلى أن القيود المفروضة على المؤسسات المرتبطة بالحزب “تؤثر مباشرة على قدرتها على التمويل وإدارة مشاريع إعادة الإعمار”.
أما بالنسبة لإيران، التي تشهد أزمة اقتصادية تتدهور معها قيمة عملتها النقدية (التومان)، فإن العقوبات المفروضة عليها تعيق التحويلات المالية الرسمية إلى لبنان.
كلّ ذلك، يزيد العبء الملقى على عاتق الحكومة والمؤسسات المالية اللبنانية، التي تتزايد الضغوط الدولية عليها من أجل الالتزام بالقوانين والمعايير الدولية لمكافحة الأنشطة المالية غير المشروعة وعمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ويعتبر أبو شقرا أن هذه الضغوط “ليست مجرّد تحذير شكلي، بل خطوة أساسية لضمان استقرار القطاع المالي، وجذب الاستثمارات والمساعدات، وحماية لبنان من المزيد من العقوبات والعزلة الدولية”.
ومن جانبها، ترى مرسل أن الحلّ الحقيقيّ لا يمكن أن يأتي من المصرف المركزي وحده، “بل من الدولة اللبنانية التي لا تزال مدرجة على اللائحة الرمادية لعدم التزامها الكامل بالإجراءات الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وحتى الآن، لم تتخذ خطوات عملية وجديّة لمواجهة هذه الظاهرة”.