![]()
في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يتناول الكاتب والصحفي، إبراهيم عيسى، “العلاقة المستحيلة” بين الإسلاميين والدولة المدنية، معتبرا أن دمج تيارات الإسلام السياسي داخل الدولة المدنية وهمٌ غربي، مصدره سوء فهم لطبيعة هذه الجماعات.
يقول عيسى إن جذور المشكلة فكرية وعقائدية؛ فالإسلاميون يؤمنون بـ”الحاكمية”، بينما تقوم الدولة المدنية على “سيادة الشعب”. ويشدد على أن أي محاولة لتمرير الإسلاميين كقوى مدنية حديثة ليست سوى عبث سياسي وفكري.
النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة:
دعوني أحدثكم عن الماء والزيت.
أنتم تعرفون أن الماء والزيت لا يمكن أن يمتزجا مهما حاولنا مزجهما. هذا بالضبط حال الإسلاميين مع الدولة المدنية.
كل الكلام الذي يقال عن إمكانية استيعاب التيارات الإسلامية داخل الدولة المدنية، وإن الدولة المدنية يمكن أن تتسع للاختلافات والتفاهمات في نفس الوقت مع تيارات الإسلام السياسي، هو كلام زائف ولا يمت للحقيقة بصلة.
فكرة التعايش هذه هي حلم الغرب. الغرب يحلم كثيرا، واشترى هذه الصفقة من الإسلاميين. الصفقة تقوم على افتراض أنه يمكن أن يكون هناك تيار إسلام سياسي يؤمن بالديموقراطية وبالحياة المدنية، وفي نفس الوقت يطبق أفكاره وثقافته الإسلامية. هذه الصفقة تحديدا اشتراها يسار الغرب. وهم لم يتحاوروا مع من يعرفون حقيقة هذه التيارات من داخل الثقافة الإسلامية ذاتها. هذا التيار الغربي، الذي يسعى لإثبات فشل اليمين أو الذي يحمل نزعة عاطفية تجاه قوى التغيير حتى لو كانت متطرفة، يصر على هذه الصفقة، مع أن شراءها يدل على عدم فهم جوهر الصراع العقائدي.
رغم ذلك، يظل رأينا أنه لا يوجد تيار إسلام سياسي يمكن دمجه، وأنه لا يوجد على الإطلاق أي مستقبل لفكرة إدماج “الإخوان المسلمين” أو غيرهم من الجماعات الإسلامية سياسيا. فكرة الديمقراطية أساساً مستحيل أن تتحقق معهم. فيأتي من يجادل قائلا: لماذا؟ خصوصا بعدما بات يُروّج اليوم لنموذج الجولاني، كمثال ممكن على إدماج الإسلاميين.
الجولاني ومحاولة ترويض الإرهاب
الجولاني إرهابي.
تنظيمه مصنَّف إرهابيا في الولايات المتحدة، وهو نفسه كان مطلوبا على قوائمها، وقد رُصدت له مكافآت بوصفه إرهابيا.
قرر هؤلاء الآن أن يلبسوه بدلة. قرروا أنه يمكن لتيار الإسلام السياسي، بل تيار الإسلام السياسي في أشد صوره تطرفا وهو الإرهابي، أن يدخل ويندمج في الدولة المدنية.
هذه هي اللعبة التي يُفترض أن على شخص مثلي، أو غيري، أن يقبل بها ويوافق عليها، باعتبارها شكلا من أشكال “تطوير” أو “تمدين” التيارات الإسلامية. لذلك، دائما ما يُقال لنا إن الإخوان المسلمين، مثلا، قادرون على الانخراط في الحياة السياسية وفق قواعدها وقوانينها. ويُضرب المثل كذلك بتركيا وأردوغان كنموذج لقدرة التيار الإسلامي على التعايش مع الديمقراطية. واليوم ظهر لنا الممثل الجديد على المسرح: الأخ الجولاني.
إن محاولة إدخال الإرهابيين تحت مظلة الشرعية يمكن أن تمثل تقنينا للإرهاب، وتسهيلا من خطورته كي يدخل الساحة السياسية المدنية. هذا القبول يسمح للإسلاميين باستخدام الديمقراطية كأداة للوصول إلى الحكم ثم تدمير العملية الديمقراطية نفسها، ولهذا نحن نعتبرها مجرد لعبة.
جذور العقيدة ورفض الوطن
من المهم أن تكون الأمور واضحة، وهذا رأيي الشخصي الذي أتحمل مسؤوليته وحدي. علينا أن نفهم الأساس، لأن جزءا كبيرا ومهما من سوء الفهم نابع من الجهل – الجهل بأفكار هذه الجماعات الأصيلة والحقيقية.
حين تجلس معهم كسياسي، أو تستمع إليهم كمواطن، تسمع كلاما عاما ومبسطا، دون تعمق أو دراسة للتاريخ أو استيعاب لتجارب الماضي. وإذا كنت ساذجا، كما كنا في بعض الأوقات، فقد تصدق أن هذا التيار يمكن أن يتغير.
لا شك أننا كنا نظن أن جماعة الإخوان المسلمين قد قبلت بالفعل بالعملية المدنية والديمقراطية، وأنها قد تدخل الإطار الديمقراطي كتيار حزبي محافظ ومتزمت يميني الطابع. كنا نتصور أنها ستكون ضمن حدود اليمين المتطرف. لكن “لا يا فندم، هذا مستحيل”. وما قيل عن اليمين الإسلامي، يقال عن اليمين الإسرائيلي – لأن كلاهما يعمل على تديين السياسة.
دعوني أعود وأتحدث عن الأصول والجذور التي تقوم عليها الفكرة الإسلامية ذاتها. لكي تقول إنك “إسلامي”، أو تكون عضوا في جماعة إسلامية، أو سلفيا، أو إخوانيا، أو حتى جولانيا، فلابد أن تؤمن بعدد من الثوابت لا يمكن التنازل عنها، وفي مقدمتها فكرة “الحاكمية”.
فإذا كانت الحاكمية لله هي الأساس، بينما السيادة للشعب هي جوهر النظام المدني، فهما نقيضان لا يمكن الجمع بينهما. وأي محاولة للجمع بينهما ليست سوى مناورة تكتيكية، وليست تحولا أيديولوجيا حقيقيا.
وعندما نسأل: ما الذي تغيّر؟ تكون الإجابة واضحة – لو تغيّروا فعلا، فلن يبقوا إسلاميين، بل عليهم أن يعلنوا صراحة: “لم نعد إسلاميين”.
وللتدليل على رفضهم لمفهوم الوطن نفسه والدولة الوطنية، يمكن أن نعود إلى ما قاله بعض قادة هذه التيارات، مثل حسن البنا الذي قال: “الوطن حفنة من تراب عفن”، ومهدي عاكف حينها قال: “طز في مصر”، وهي أقوال تعبّر بوضوح عن ازدراء مفهوم الوطن لصالح فكرة الجماعة والأمة.
هذه المقولات تُظهر أن العقيدة التي يتأسس عليها الفكر الإسلامي السياسي لا تعترف بوجود الوطن أصلا؛ فالفكرة المركزية هي الخلافة الإسلامية.
في المحصلة، كيف يمكن أن تندمج في دولة مدنية وأنت ضد المدنية وضد الوطنية؟ أنت ضد الدولة الوطنية وضد المدنية، لأنك تريد الحاكمية لله.
نفاق المعايير
لا يكاد يُصدَّق أنه بعد كل ما جرى، لا يزال البعض يتحدث عن مستقبل التيارات الإسلامية ضمن إطار الدولة المدنية.
انظروا إلى إيران مثلا، إلى الحكومة الإسلامية التي أسسها الخميني. إن إيران تمثل مثالا حيا وواضحا يؤكد الفكرة الجوهرية: متى تولّى الإسلاميون الحكم، تصبح الدولة بالنسبة لهم “حكومة إسلامية” لا علاقة لها بالمدنية أو الديمقراطية.
قد تُمارس هناك ديمقراطية شكلية – انتخابات داخلية محدودة، أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية – وقد لا تُمارس إطلاقا، كما في حالة حماس. فبعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، استولت على السلطة في غزة، ولم تُجرِ منذ ذلك الحين أي انتخابات، لا تشريعية ولا نقابية ولا حتى طلابية، طوال ستة عشر عاما من حكمها.
إن تجربتي حماس وإيران تبرزان بوضوح أن الديمقراطية بالنسبة للإسلاميين ليست مبدأ للحكم، بل وسيلة للوصول إلى السلطة. وما إن يتمكّنوا منها حتى يتحول النظام إلى حكومة إسلامية تنهي أي شكل من أشكال المدنية أو الديمقراطية، لتدخل البلاد في قبضة الفاشية الدينية، ولا يبقى بعدها أي أمل في استعادتها.
أما في حالة تركيا، فالتجربة حتى الآن لا تزال تجربة علمانية تركية، لا دينية. إن من ينقذ تركيا حتى هذه اللحظة ليس أردوغان، بل علمانية أتاتورك.
القوة الحقيقية التي تحافظ على توازن تركيا ليست نجاح أردوغان، بل متانة الدولة العلمانية التركية وقدرتها على الصمود أمام تيار ديني متقلب وانتهازي.
مرة أخرى، يُطرح السؤال: هل يمكن للإسلاميين أن يتواجدوا داخل الدولة المدنية؟ هل يمكن أن يشكّلوا أحزابا سياسية، وأن يترشحوا، وأن يُنتخبوا، وأن يحكموا أصلًا؟
هذا السؤال أوجّهه إلى كل عقل في الغرب – من يساره إلى يمينه – وإلى أولئك الموجودين في مراكز البحث والمؤسسات الأكاديمية.
هل يمكن أن تقبل بوجود أحزاب عنصرية تريد أن تحكم بطريقة تُلغي فيها مفهوم المواطنة، وتجعل المواطنين درجات؟
هل يمكن لرجل أوروبي أو غربي أن يتصور إمكانية التعايش من جديد مع حزب نازي أو فاشي؟
اليوم، ومع ظهور أحزاب متطرفة ومتشددة في أوروبا، نجد أن المجتمعات الأوروبية ومثقفيها هم أول من يتكاتف لمواجهة هذا المد اليميني، الذي لا يمثل حتى واحدا في الألف من أفكار الإخوان المسلمين، أو التيارات الإسلامية، أو الجولاني، أو النظام الإيراني – تلك الأفكار التي تقوم على التمييز والعنصرية والطائفية، وتُبيح القتل، وتُطبق حد الردة على المخالفين، وتُكفّر من يخرج عن الجماعة.
ومع ذلك، ترى في الغرب من يُصنّف نفسه يساريا أو معتدلا، لا يحتمل تطرف اليمين الأوروبي حين يدعو لطرد المهاجرين، لكنه في الوقت نفسه يطالبنا نحن أن نتعايش في مصر أو العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن مع تيار إسلامي يسعى لطرد المسيحيين أو اليهود من أوطانهم! أيّ نفاق هذا؟
نحن لا نتحدث عن تاريخ بعيد، بل عن تجارب معاصرة حيّة، نراها بأعيننا. فكلما تولّى الإسلاميون الحكم، انتهت المدنية، وتلاشت الديمقراطية، وغابت أي إمكانية لاستعادتهما.
المفاضلة القاسية
قد تقول لي بطبيعة الحال: “لكننا نعيش في مجتمعات استبدادية”. وأقول لك: نعم صحيح.
لكن الخطأ أن تحاول تبرير القبول بالاستبداد الديني، بحجة الاستبداد السياسي القائم.
وكأنك تقول: “بما أن بشار الأسد ديكتاتور، فلنجرب الجولاني!”
وكأنني حينها أقول لك إن المجتمع مريض بسرطان الاستبداد، ترد عليّ: “ما دام كذلك فلا بأس، جرب سرطان الاستبداد الديني!”
أي منطق هذا؟! ليست هذه طريقة للعلاج ولا للحل. لا يمكن أن يكون “البديل” لديك هو ديكتاتورية أخرى.
أنا لا أقبل استبدادا سياسيا، ولا أقبل دينيا. وإذا كان لا بد من الاختيار بين السيئ والأسوأ، فسأختار – مضطرا – الاستبداد السياسي.
لماذا؟ لأن الاستبداد الديني يجلب معه بالضرورة الاستبداد السياسي أيضا. أما الاستبداد السياسي، فربما يترك هامشا – ولو ضئيلا – من الانفتاح الاجتماعي أو الديني، مع أنه أمر نادر أيضا.
نحن أمام مشهد عبثي تماما: إصرار مريض على محاولة تمرير التيارات الإسلامية وإلباسها ثوب “تيارات سياسية مدنية” قادرة على إدارة دولة حديثة! هذا عبث بكل معنى الكلمة.
وهنا يجب أن نُفرّق بوضوح بين المفاهيم: الإسلام السياسي يعني الاستبدادي، أما المسلم فشيء آخر تماما.
و”الإسلام السياسي” هو الكارثة بعينها.
ولهذا لا يمكن أن يجتمع الماء والزيت.
لا يمكن أن يجتمع الفكر الإسلامي السياسي مع الدولة المدنية أبدا.
مهما حاول البعض، بالإغراء أو الخداع أو التزوير أو عبر أجهزة المخابرات والإعلام، فلن تكون هذه المعادلة صحيحة.
بل الحقيقة الثابتة والأبدية هي: إسلاميون + دولة مدنية = انفجار إرهابي.