“الكابوس التركي” يرعب إسرائيل

Loading

بينما تتكثف الجهود الدولية لرسم ملامح اليوم التالي للحرب في غزة، تتبنى إسرائيل موقفاً صارماً إزاء واحدة من أكثر القضايا حساسية: نشر قوات دولية في القطاع. موقف يبدو راسخاً، ويجمع بين خلفيات أمنية وتجارب سابقة وأجندة سياسية لا تخفي أولوياتها.

منذ أن تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإعادة الرهائن الإسرائيليين وتحرير المعتقلين والسجناء الفلسطينيين، أكدت إسرائيل أنها ترفض أيّ وجود أجنبي في غزة لا يحظى بموافقتها، مشيرة إلى أنها تحتفظ بحق الفيتو على أيّ قوة محتملة. وفي هذا السياق، شدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في مستهل جلسة الحكومة الأسبوعية الأحد، على أن “إسرائيل دولة مستقلة، والسياسة الأمنية في يدنا وحدنا”، مضيفًا: “لقد أوضحنا بجلاء بشأن القوات الدولية أن إسرائيل هي من ستحدد أيّ قوى غير مقبولة لدينا.”

نتنياهو رد أيضاً على ما وصفه بـ”مزاعم سخيفة” بشأن تبعية قراراته لواشنطن أو العكس، قائلاً: “إسرائيل دولة مستقلة، والولايات المتحدة كذلك. شراكتنا بلغت ذروتها التاريخية، لكنها لا تعني أن أحدنا يملي على الآخر سياسته الأمنية.” وأضاف: “نحن نرد وفقاً لتقديرنا، كما فعلنا في لبنان وقطاع غزة، ولا نطلب إذناً من أحد.”

وتستند الحكومة الإسرائيلية في رفضها إلى اعتبارات أمنية عميقة، على رأسها خشيتها من أن يؤدي نشر قوات دولية إلى تقييد حرية حركة الجيش الإسرائيلي مستقبلاً، في حال تجددت التهديدات الأمنية من القطاع. كما ترى أن تجارب سابقة مع قوات دولية – مثل “اليونيفيل” في جنوب لبنان – لم تحقق الردع الكافي لحزب الله، بل أتاحت له هامش مناورة تحت غطاء دولي، وفق ما أوضحت نائبة وزير الخارجية شارين هسكيل في حديث سابق مع “الحرة”.

لكن الخلاف الأبرز اليوم يدور حول مشاركة تركيا المحتملة في أيّ قوة إقليمية أو دولية تدير غزة في المرحلة التالية. وفي مقابلة خاصة مع قناة “الحرة”، قال السفير الإسرائيلي الأسبق لدى أنقرة، د. ألون ليئيل: “منذ نهاية عام 2008 والعلاقات بين إسرائيل وتركيا تمرّ بأزمة لم تتعافَ منها حقًا. هناك هوة ثقة بين الرئيس أردوغان والقيادة الإسرائيلية، وإسرائيل ترى أن أردوغان زعيم عدائي، وتركيا اليوم دولة تُعتبر خصماً سياسيّاً”.

وتتعمّق المخاوف الإسرائيلية من الدور التركي في غزة عندما يُنظر إليه ضمن الصورة الإقليمية الأشمل. فبالنسبة لتل أبيب، التمدّد التركي جنوباً – عبر وجود فعلي في القطاع – يقابله نفوذ متصاعد في شمال سوريا، ما يرسم في نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية طوقاً استراتيجيّا مقلقاً يطوّق حدودها من جهتين، وفقا لتحليل نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية.

ويأتي ذلك في ظل علاقات سياسية متوترة، وتصعيد كلامي مستمر من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان الذي لا يُخفي دعمه العلني لحركة حماس، وسبق أن شبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ”هتلر”، ووجّه اتهامات لإسرائيل بارتكاب “إبادة جماعية” في القطاع.

ومع انخراط تركيا في قوة البحث عن جثامين الرهائن، واستعدادها المعلن لإرسال جنود إذا طُلب منها، تتزايد في إسرائيل المخاوف من أن يتحوّل هذا الدور الإنساني إلى نفوذ دائم، وأن تمتلك أنقرة “كلمة حاسمة” في مستقبل القطاع، بما في ذلك تقييم التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار. ومع اشتداد قبضة تركيا في سوريا، خصوصاً مع تغيّر موازين النفوذ هناك، تخشى إسرائيل من أن تجد نفسها محاطة بجناحين تركيين في منطقتين شديدتي الحساسية – وهو ما تعتبره “كابوساً استراتيجياً”، كما وصفتها صحيفة “يديعوت أحرونوت”.

ومع ذلك، يرى السفير الإسرائيلي الأسبق لدى انقرة أن القرار النهائي بشأن دور الأخيرة قد يكون في يدها: “إذا أصرّت تركيا على لعب دور فعلي – إنسانيّا أو سياسيّا أو حتى عسكريّا – فقد تمارس واشنطن ضغطاً حقيقيّا على إسرائيل. لكن تركيا قد تختار بدلاً من ذلك زيادة نفوذها في ملفات أخرى، مثل سوريا.”

وعن دوافع أنقرة، أوضح ليئيل أن الأمر لا يتعلّق فقط بالطموحات الإقليمية: “تركيا تاريخيّا تدعم فكرة الدولة الفلسطينية، ومنذ أكثر من 20 عاماً، تربطها علاقة دينية ورمزية بهذه القضية. لهذا أعتقد أن انخراطها في ملف غزة في هذه المرحلة لا يرتبط فقط بدورها الإقليمي بل برؤية أيديولوجية” وهو ما اعتبره الدافع لتفضيل أنقرة حركة “حماس” على “فتح”.

في المقابل، تروّج واشنطن لفكرة قوة متعددة الجنسيات تتولى ضمان الاستقرار والمساعدة في إعادة الإعمار بعد الحرب. وكان نائب الرئيس الأميركي، جاي دي فانس، قد تحدث خلال زيارته الأخيرة لتل أبيب عن إمكانية أن تلعب تركيا “دوراً بنّاءً” في غزة، لكنه أوضح أيضاً أن واشنطن لن تفرض هذا التصور على إسرائيل. وقد اعتُبر هذا الموقف محاولة للحفاظ على التوازن بين تطلعات حلفاء واشنطن الإقليميين، والإقرار بهوامش القرار الأمني الإسرائيلي. في هذا السياق، قال ليئيل إن الولايات المتحدة، لا سيما إدارة ترامب، تنظر إلى دور تركيا بشكل مختلف: “أميركا تُقدّر مساهمة تركيا في إطلاق سراح الرهائن. رأينا هذا واضحاً في زيارة نائب الرئيس وظهور كوشنر. هناك تباين حقيقيّ بين واشنطن والقدس بشأن الدور التركي، وإسرائيل وضعت خطاً أحمر: لا لتركيا.”

ورغم أن الادارة الأميركية استبعدت نشر جنود أميركيين داخل غزة، تحدثت تقارير عن إمكانية إشراك قوات من مصر، وإندونيسيا، ودول الخليج.

وبحسب مسؤولين مطلعين، تشمل المقترحات المطروحة هيكلية مزدوجة: قوة لحماية الحدود بين غزة وإسرائيل، وأخرى تعمل داخل القطاع. ويجري تداول فكرة نشر عناصر أمنيين من السلطة الفلسطينية تلقّوا تدريبات في مصر والأردن، على أن يعملوا إلى جانب عدد محدود من الجنود الدوليين، مع مراقبة من شرطة أوروبية.

غير أن عقبات عدة ما زالت قائمة، من بينها رفض إسرائيل لعدد من المشاركين المحتملين، ورفض حماس حتى اللحظة الالتزام بنزع سلاحها، وهو ما تعتبره إسرائيل شرطاً أساسيّا.

في ضوء هذه المعطيات، يتضح أن البديل الذي سعت إليه إسرائيل في غزة لم يُثمر كما خُطّط له. فبعد رفضها القاطع لنشر قوات دولية، ورفضها كذلك لتحمل مسؤولية إدارة مدنية مباشرة للقطاع، راهنت إسرائيل على صيغة “حكم ظلّ” يُبقي يدها الأمنية العليا دون أن تتورّط في تفاصيل الحياة اليومية. ولهذا حاولت الدفع باتجاه تشكيل إدارة محلية من شخصيات عشائرية من خارج صفوف حماس، تتولى الشؤون المدنية تحت مظلة الرقابة الإسرائيلية.

لكن هذه “الصيغة الهجينة” سرعان ما تهاوت على وقع التطورات الميدانية. فالإعلان عن وقف إطلاق النار أفسح المجال لعودة حماس إلى الواجهة، ليس فقط كقوة قائمة، بل كلاعب ميداني يشارك في ملفات حساسة، كالبحث عن جثامين الرهائن، بل ويتولّى معاقبة الفصائل التي تعاونت مع إسرائيل في مرحلة ما. وهكذا، بات المشهد على الأرض يتناقض بوضوح مع الرؤية الإسرائيلية لـ”اليوم التالي”، ويطرح علامات استفهام كبيرة حول مدى قدرة إسرائيل على فرض تصوراتها الأمنية والسياسية في واقع لا يزال يتشكل – ولكن بشروط من لا ترغب بهم في الحكم.

وبانتظار أن تكتمل صورة هذا الواقع، تواصل تركيا مسعاها للمشاركة في “القوة الدولية” رغم المعارضة الإسرائيلية، لكنها تعوّل على لعب أدوار في ساحات أخرى، مثل إعادة الإعمار، إذا قدّر لها أن تبقى خارج ميدان الترتيبات العسكرية.