قوة ناعمة جديدة في الشرق الأوسط

Loading

بينما ترسخ بكين بهدوء حضورها الاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي في الشرق الأوسط، يتزايد نفوذها وضوحا في عواصم تمتد من الرياض إلى الرباط. فمع استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية والثقافة والإعلام، تعيد حملة “القوة الناعمة” الصينية تشكيل التصوّرات بشأن القوة والشراكة في منطقة طالما هيمنت عليها الولايات المتحدة.

هذا الأسبوع، أجرى الرئيس التنفيذي لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN)  جيف غيدمن مقابلة مع الصحفية المخضرمة، مين ميتشل، المتخصصة في الشؤون الصينية، والتي ستقود تغطيتنا لنفوذ بكين المتزايد في المنطقة. في هذا الحوار، يتناول غيدمن وميتشل استراتيجية الصين في مجال القوة الناعمة في الشرق الأوسط، وما تعنيه بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها.

جيف غيدمن: مين، الصين تطبّق استراتيجية قوة ناعمة، واسعة النطاق لكسب ودّ دول الجنوب العالمي. هل استراتيجيتها فعالة؟

مين ميتشل: إلى حدّ كبير، نعم. خطاب بكين حول “تضامن الجنوب العالمي”، وتعدد الأقطاب، ومقاومة “الاستعمار الثقافي الجديد” (أي الغربي) يجد آذاناً صاغية. نرى ذلك في استطلاعات “بيو” الأخيرة التي تُظهر أن العديد من الدول في إفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط باتت تنظر بإيجابية تجاه الصين.

نهج الصين بسيط لكنه فعّال: التركيز على التجارة والبنية التحتية وأهداف التنمية المشتركة بدلا من الأيديولوجيا أو الإصلاح السياسي. يلقى هذا الخطاب صدى، خاصة لدى الحكومات التي ضاقت ذرعا بالمحاضرات والشروط الغربية المسبقة.

كيف تنفّذ الصين ذلك عمليا؟ ما الأدوات الرئيسية التي تستخدمها؟

إنها استراتيجية شاملة: الإعلام، والثقافة، والتعليم والدبلوماسية، كلها تعمل معاً بانسجام. ففي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يظهر ذلك من خلال المحتوى العربي لشبكة CGTN، وشراكات “المجموعة الإعلامية الصينية” مع وسائل محلية، تروّج جميعها لرسائل مثل “الاحترام المتبادل” و”التنمية للجميع”.

في الوقت ذاته، تستثمر الصين بكثافة في التبادلات الثقافية والتعليمية، من معاهد كونفوشيوس إلى المنح الدراسية للطلاب العرب. هذا الشهر، افتتحت بكين أول مركز ثقافي صيني في الكويت، وهو الأول في الخليج، لتقدّم نفسها كشريك عصري “غير استعماري” يختلف عن الغرب. وبالطبع، تربط “مبادرة الحزام والطريق” كل ذلك بتحويل المشاريع البنيوية إلى رأسمال سياسي.

مفهوم “القوة الناعمة” صاغه البروفيسور في جامعة هارفارد جوزيف ناي، الذي وصفه بأنه قدرة الدولة على جعل الآخرين “يريدون ما تريده هي”. وقد دار الجدل طويلا حول كيفية قياس هذا النوع من التأثير، وكيف ينعكس فعلا على السياسة الخارجية.

إذن، ماذا تريد الصين من الشرق الأوسط؟

أهداف الصين في الشرق الأوسط عملية:  الاستقرار، والوصول، والنفوذ. فهي تريد منطقة مستقرة لحماية إمداداتها من الطاقة واستثماراتها؛ وتريد الوصول إلى الأسواق والبنى التحتية عبر “الحزام والطريق”؛ وتسعى إلى نفوذ يسمح لها بالمساهمة في صياغة نظام عالمي أقل تمركزا حول الولايات المتحدة.

تسعى بكين لأن تقدم نفسها لدول المنطقة كشريك موثوق لا يتدخل (في شؤونها)، وكبديل طويل الأمد للقوى الغربية. ومن خلال خطاب “التعاون المربح للجميع”، تعمل على تعزيز تماهي تلك الدول مع رؤيتها لعالم متعدد الأقطاب، حيث تتراجع الهيمنة الأميركية لصالح “تقاسم النفوذ”.

وفي نهاية المطاف، تريد الصين استمالة دول المنطقة تدريجيا نحو تبني نموذجها، من خلال إعطاء الأولوية للتعاون الاقتصادي مع بكين، وتبنّي سردياتها حول السيادة والتنمية، والاصطفاف بهدوء، أو على الأقل عدم معارضتها، في القضايا الحساسة مثل تايوان وشينغيانغ.

يبدو أن الإعلام جزء أساسي من هذه الاستراتيجية. الرئيس شي جينبينغ يتحدث كثيرا عن ضرورة “رواية القصة الصينية جيدا”. كيف تُترجم بكين ذلك عمليا في مجال البث الدولي؟

ضخّت الصين موارد ضخمة لتوسيع عملياتها الإعلامية متعددة اللغات، كجزء من مسعى شي للسيطرة على السرد العالمي، وتقديم صورة أكثر إيجابية عن الصين. تبث CGTN اليوم بست لغات، وتصل إلى جمهور في آسيا وأوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط. ويقدّر محللون أن بكين تنفق مليارات الدولارات سنويا على كل شيء: من البنية التحتية الإعلامية والإنتاج إلى التفاعل الرقمي.

كما تعمل وسائل الإعلام الحكومية الصينية عن قرب مع شركاء محليين، لإنتاج برامج مشتركة، وتقديم دورات تدريب للصحفيين، وبثّ محتوى عبر منصات مثل “تيك توك” لعرض تجربة الصين في التنمية ونموذجها في الحوكمة ورؤيتها لـ”التعاون المربح للجميع”.

وفي الآونة الأخيرة، دشنت بكين مرحلة جديدة من التوسّع الإعلامي داخل أراضيها. إذ بدأت مراكز الاتصال الدولية في المقاطعات والمدن بإنتاج محتوى محلي موجّه لمناطق مختلفة، غالبا بالتعاون مع الجامعات وأجهزة الدعاية الرسمية، لجعل الرواية الرسمية أكثر قربا من الجمهور المستهدف.

في الوقت نفسه، تختبر بكين استخدام المحتوى المُنتج بالذكاء الاصطناعي، والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى الحسابات المجهولة لنشر رواياتها بشكل أكثر مواربة. كل ذلك مدعوم بحملة دبلوماسية نشطة للردّ على أي تحدٍّ لصورتها الدولية.

وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: كيف تنظر الصين إلى الولايات المتحدة كمنافس على النفوذ في الشرق الأوسط؟ وماذا عن روسيا وإيران؟ هل تراهم خصوما أم شركاء؟

بينما توسّع الصين حضورها العالمي، أصبح الشرق الأوسط محورا لدبلوماسيتها الهادئة والمحسوبة. فهي تنظر إلى الولايات المتحدة باعتباره المنافس الرئيسي على النفوذ الإقليمي، حتى وإن تجنبت المواجهة المباشرة. ولا تزال واشنطن تهيمن على المشهد الأمني عبر الشراكات العسكرية وشبكات الدفاع، لكن تقدّم الصين يأتي عبر وسائل اقتصادية ودبلوماسية  اتفاقات تجارية، وتمويل مشاريع بنى تحتية، ومبادرة الحزام والطريق. رسالتها للعواصم الإقليمية ثابتة: التعاون بلا شروط سياسية، في تباين واضح مع النموذج الغربي القائم على التحالفات.

هل تعتمد الصين نهجا واحدا في المنطقة، أم تراعي خصوصية كل دولة؟

العلاقات مع روسيا وإيران توضح مرونة بكين. فهي تتشارك مع موسكو مصلحة الحدّ من النفوذ الأميركي وتعزيز التعددية القطبية، لكن لكلٍّ مساره: روسيا عبر الأمن والدفاع، والصين عبر الاستثمار والدبلوماسية. أما مع طهران، فتركّز العلاقات على تجارة الطاقة ومقاومة الضغوط الغربية، مع حرص بكين في الوقت نفسه على عدم الإضرار بعلاقاتها الحيوية مع دول الخليج وإسرائيل.

بكلمة أخرى، الصين تلعب “لعبة طويلة الأمد” في الشرق الأوسط، تنافس واشنطن بهدوء، وتنسّق مع موسكو وطهران حين يلزم، وتسعى لتكريس نفسها شريكا اقتصاديا موثوقا وغير أيديولوجي، يرسّخ نفوذه عبر البراغماتية لا عبر القوة.

لننتقل إلى نظرة أكثر تفصيلا. ما الدول ذات الأولوية بالنسبة لبكين في المنطقة؟

ترتكز انخراطات الصين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على ثلاثة محاور: أمن الطاقة، والوصول إلى الأسواق، والنفوذ الجيوسياسي.
في الخليج، تأتي السعودية والإمارات والعراق والكويت وعُمان في صدارة الاستراتيجية الصينية. وحدها السعودية شكّلت نحو 14 إلى 15% من واردات الصين من النفط الخام عام 2024، ما عزّز شراكة تشمل اليوم انتقال الطاقة والبنية الرقمية والتعاون الدفاعي. أما المصالحة السعودية – الإيرانية عام 2023، التي لعبت الصين دور الوسيط فيها، فقد أكدت حضور بكين كقوة اقتصادية ودبلوماسية في آن واحد.

في شمال إفريقيا، تبقى مصر والجزائر حليفين رئيسيين، إذ تستضيفان مشاريع كبرى ضمن “مبادرة الحزام والطريق” تربط البحر المتوسط بإفريقيا جنوب الصحراء. أما المغرب، فيبرز كأولوية جديدة، مستقطبا استثمارات صينية في تصنيع السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة.
ومن خلال ذلك، تروّج الصين لرؤية تقوم على “التعاون المربح للطرفين”، على أمل مواءمة سياسات الحكومات المحلية مع هذه الرؤية.