خديعة الإجماع في الإسلام

Loading

في حلقته الأسبوعية على منصات “الحرة” الرقمية، يتناول الكاتب والصحفي إبراهيم عيسى مفهوم “الإجماع” في الفكر الإسلامي، منتقدا ما يصفه بـ”الخرافة الكبرى” التي استُخدمت لقمع الاجتهاد والاختلاف عبر التاريخ.

يؤكد عيسى أن فكرة الإجماع المطلق لا تستند إلى منطق أو واقع، مستشهدا بأقوال فقهاء كبار كأحمد بن حنبل، وبالخلافات التاريخية بين العلماء والمذاهب التي تنقض وجود أي اتفاق شامل.

النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أُعيد تحريره لتسهيل القراءة.

كلما سمعت أحدَهم يرفع صوتَه في التسليم المطلق والتمجيد المبالغ فيه لفكرة”الإجماع”، أو يردّد عبارات من نوع “أجمع المسلمون”، و”أجمع العلماء”، و”أجمع أهل السلف”، تحسّ فورا أن هناك كذبة كبرى تُروّج على أنها حقيقة مطلقة اسمها “الإجماع”.

هذه الخرافة لا تزال تضغط على صدر الثقافة والفكر والفقه الإسلامي.

يجب أن نكون على يقين: ليس في الإمكان أن نتصوّر شيئا مطلقا باسم “الإجماع” في كل شيء، وتحت أي ظرف. هذا ادّعاء عظيم لا يقوم على أساس موضوعي. ستتَّهمني فورًا بأنّي من أنصار العلمانية أو الدولة المدنية أو أنّي أريد “هدم الإسلام”. يمكنك أن تحتفظ بتلك الاتهامات إن شئت، لأنني سأقول لك: لست أنا من قال ذلك. لست أنا من قال: “مَنْ ادّعى الإجماع فقد كذب”. هذا الكلام قاله ابن حنبل نفسه. فهل تتهم ابن حنبل بالعلمانية؟!

أمر آخر يُثير الدهشة. عندما يتم إيهام الناس بأحاديث من قبيل أن الأمة لا تجتمع على خطأ، أو “لا تجتمع أمتي على ضلالة”، فإنك ستجد، إذا دققتَ في سلسلة التخريج وفقَ قواعدهم الحديثية، أن بعض هذه الأحاديث ضعيفة أو موضوعة أو غريبة. بل هي ضدّ العقل في كثير من الحالات.

فما المقصود بـ”الإجماع” أصلا؟ إذا كان المقصود هو أن كل الناس اتفقوا على شيء واحد، فأين هذا الاتفاق الكلي؟ هل ثمّة إجماع حتى على وجود الله؟ هناك منكرون وملاحدة في العالم، بالملايين. فهل نعني إجماعا مطلقا بين كل البشر؟ أم إجماعا خاصا بطائفة أو مذهب؟ ثم ألا يجعل هذا التعريف للإجماع منطقا ينسف الاختلاف والاختلاف الطبيعي بين البشر؟ الإجماع بهذا المعنى هو وهم من الدرجة الأولى.

الإجماع مقابل واقع الأمة

عندما يتحدثون عن الإجماع، إجماع من يقصدون؟ هل المسلمون على مذهب واحد حتى؟ هل إجماع المسلمين السنة أم الشيعة؟ إجماع المذهب الشافعي أم المذهب الحنفي؟ الحقيقة التي لا يُجادل فيها هي أن الواقع التاريخي والمعاصر للأمة مليء بالتعدد والتشرذم والخلاف.

عندما تقول “ثمّة إجماع”، فأنت تُلغِي منطق الاختلاف والاجتهاد الذي يعيشه المسلمون منذ القرون الأولى للإسلام وحتى اليوم. طوال التاريخ نرى الخلافات والصراعات على أصول الدين نفسها. لو كان هنالك إجماع حقيقي لكان إجماع الصحابة. ولكن هل اجتمع الصحابة أصلاً على قراءة واحدة للمصحف؟ التاريخ يقول غير ذلك: بعد جمع القرآن وتوحيده، ثار خلاف حول المصاحف، حتى أنَّ بعض الصحابة رفضوا نسخة معينة. إذن الخلاف وصل حتى إلى نصّ الكتاب المنزل.

تذكروا موقف عبد الله بن مسعود الذي قال إن المعوذتين ليستا آيتين من القرآن. وإذا كان الاختلاف قائما بهذا الشدة على أصل الدين، فكيف يتوهّم البعض أنه ثمّة اتفاق كلي؟

والخلاف لم يختف مع الزمن؛ بل يستمر لليوم. حتى في أمور كموعد بداية رمضان أو رؤية الهلال، تظهر كل سنة اختلافات بين المسلمين. فهل هذه حالة “إجماع” أم واقعٌ من الاختلاف الطبيعي؟

أما من يتشدق بقول “أجمع أهل السلف” فهؤلاء على الأقل صادقون مع أنفسهم باحتجاجهم بالسلف، لا بكل المسلمين. لكن المفاجأة أن أهل السلف أنفسهم لم يتفقوا هم أيضا! يثبت التاريخ أنهم اختلفوا وتنازعوا. كل قارئ للتواريخ الإسلامية سيقف على هذا السجل الممتلئ بالخصومات: اشتباكات في المساجد، تراشق في المذاهب، اعتداءات على البيوت، حصار لعلماء. هذه وقائع لا تُخفى على أحد. إذًا عن أيّ إجماع يتحدّثون؟

الشافعي: قصة اختراع الإجماع

لماذا، إذن، يتم التمسك بهذه الفكرة بصرامة؟ من أين جاءت مكانة “الإجماع” كمصدر للتشريع إلى جانب القرآن والسنة؟ التاريخ الفقهي يضعنا وجها لوجه مع الإمام الشافعي الذي رتب الإجماع كمصدر للتشريع بعد القرآن والسنة، وجعله وسيلة لحسم التشرذم الفكري. لكن حتى الشافعي نفسه، في كتابه، يُقَيِّد الإجماع بمحور ضيّق، هو الإجماع على فروض الدين الأساسية، وليس في كل شيء.

ففي نظر الشافعي، الإجماع المعقول هو ما يتعلق بالفرائض القطعية كالصلاة، الأمور التي لا تقبل الاختلاف في بنْيَتهَا الأصلية. أما كثير من التفاصيل الفقهية والأحكام العملية فتبقى متاحة للاجتهاد والاختلاف.

إذن، قدم الشافعي الإجماع كحلّ لمشكلة التشتت المذهبي، لكنه لم يقدر أن هذا الاختراع سيتحوّل لاحقًا إلى أداة أكثر لتجميد النقد والسيطرة على المنابر الفقهية. وكانت النتيجة توسّعا في تعريف “من هم المجتمعون” وعلى أي زمن يقع الإجماع: هل هم أهل المدينة؟ أهل القرن الأول؟ أهل المذهب؟ أغلب العلماء؟ هذه التوسعات جعلت من الإجماع سلاحا بدلا من أن يكون وسيلة لجمع الأمة على الأصول.

الإجماع: سلاح الهيمنة ضدّ التجديد والاختلاف

الإجماع، كما صار يُستعمل، ليس مجرد مصطلح فقهي موضوعي؛ بل هو سلاح يُستخدم ضد المختلفين والمجددين. على مدى التاريخ قُتل كثيرون بحُجَج من هذا النوع: “أجمع العلماء على كفره”، “أجمع العلماء على ضلاله”.

كم من مفكر أو متصوف أو مُجدد وقَع ضحية اتهامات “الهرطقة” أو “البدعة” المستندة إلى مزاعم الإجماع؟ التاريخ مليء بأسماء ذُبحت أو حُكم عليها بالإقصاء بعد أن أُلقيت عليها شُبهة الخروج عن الإجماع”. ومن المفارقات أن كثيرا من الذين ندَّدوا بآخرين لكونهم “خارج الإجماع” انتهى بهم المطاف هم أنفسهم إلى أن يكونوا عرضة للاتهام في أزمان لاحقة.

هذه الآلية لا تخدم سوى بقاء نفوذ من يريدون الاستبداد بالفكر: إذا كان من حقّ فئة واحدة أن تقول إن رأيها هو “مجمَع عليه”، فذلك يجرّ وراءَه إقفال باب الحوار والاجتهاد. ثم تأتي الادعاءات الجاهزة: “أنت ضد الأمة” “أنت تحارب الإسلام”، “أنت تجلب الفتنة”. وهكذا تُلغَى أي معارضة أو نقد باسم الدفاع عن “ثوابت الدين” أو “إجماع الأمة”.

ولهذا يصبح واضحا أن هدف استعمال الإجماع في كثير من الأحيان ليس حماية الدين، بل احتكار الدين؛ أن يكون لطبقة أو طائفة وصاية على المفاهيم والفتاوى. وبما أن مثل هذا الاحتكار يحمي مصالحَ سلطوية دينية أو سياسية، فإن الإجماع يُستغل لشرعنة السلطة وصونها من أي مساءلة.

الخلاصة هنا واضحة: “الإجماع” كما يُستعمل اليوم في الخطاب الديني ليس أداة علمية دقيقة ولا مرجعا مطلقًا. إنه سلاح يُكبّل الفكر، ويعيد إنتاج قبضة دينية توظّف الاتهام والتكفير والوصاية، وتُقصي الآخرين باسم وحدة مزعومة لا وجود لها في الواقع التاريخي للأمة.