![]()
من قرية صغيرة قرب بواكي، شمال كوت ديفوار، يظهر الشيخ لقمان كوناتيه عبر شاشة هاتفه، محاولًا تثبيت الإشارة الضعيفة وإضاءة المصباح الصغير أمامه قبل أن يبدأ حديثه مع “الحرة”.
يجلس بثوبه الأبيض قرب طاولة خشبية متواضعة، ومسبحته تتدلّى من يده. يعتذر مبتسما لأنه تأخّر قليلا عن موعد المقابلة. كان قد أنهى توا محاضرته الأسبوعية لشبان القرية عن “طهارة القلب”.
“بعض هؤلاء الشباب فقدوا آباءهم في النزاعات المسلحة شمالي البلاد، وبعضهم كان على وشك الانضمام إلى جماعات متشددة تنشط على الحدود مع مالي”، يخبرنا الشيخ كوناتيه. لكنهم، يضيف بنبرة هادئة، “في زاويتنا الصغيرة وجدوا ما لم يجدوه من قبل: سكينة، وانتماء، وهدفا”.
في القرى الفقيرة شمالي كوت ديفوار، حيث سمح ضعف الدولة بتمدّد جماعات مسلحة، تنتشر اليوم زوايا صوفية وجماعات ذكر تحاول نشر الاعتدال بين الشباب.
يقول الشيخ كناتيه: “عندما نتحدث عن الصوفية، فالأمر يتعلق بتطهير القلب من الكِبر والنفاق والحسد، وهذه الطرق نحاول إيصالها إلى شبابنا وإقناعهم بها بدل التطرف وحمل السلاح”.
في منطقة تعاني هشاشة أمنية وتحديات اقتصادية، يطرح انتشار الزوايا الصوفية في كوت ديفوار سؤالا أوسع حول ما إذا كان التصوف، بطابعه الروحي والاجتماعي، قادرا على تعزيز مناعة المجتمعات المحلية في مواجهة الفكر المتطرف.
ورغم أن كوت ديفوار لا تخلو من تهديداتٍ على حدودها الشمالية مع مالي وبوركينا فاسو، فإنها لم تشهد هجمات كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية مقارنة بدول الساحل المجاورة.
ويرى باحثون ومراكز دراسات أن هذا الاستقرار النسبي يعود إلى تماسك مؤسسات الدولة وبرامج الوقاية المجتمعية، وإلى أدوار شبكات دينية محلية، منها الزوايا الصوفية، التي وفّرت فضاءات روحية وثقافية لاستيعاب الشباب وبناء خطاب وسطي يحدّ من نفوذ الجماعات المتشددة.
وفي بلدان أخرى من غرب أفريقيا، يتسم حضور التصوف ببعد أوسع وأكثر رسوخا.
وتُسجّل في دول مثل السنغال أعلى مستويات الانتماء إلى الطرق الصوفية. وتؤكد الدراسات الميدانية والمراجع الرسمية، وحتى تقارير وزارة الخارجية الأميركية، أن الغالبية الساحقة من المسلمين في السنغال (حوالي 95%) تنتمي إلى الأخويات والطرق الصوفية مثل التيجانية والمريدية والقادرية.
ويفسر ذلك جزئيا نجاح الزوايا هناك في ضبط المناخ الاجتماعي بما تلعبه الزعامات الدينية من أدوار تتجاوز الدين إلى السياسة والاقتصاد والوساطة في الأزمات.
لا تستغرب سارة الجويني، وهي خبيرة في الإسلام السياسي وباحثة في الجمعية التونسية للدراسات الصوفية انتشار الصوفية وفعاليتها في السنغال.
تقول الجويني في حديث مع “الحرة” إن المفردة الدينية، أي المفهوم الأخلاقي للممارسة الدينية، في أفريقيا، بما في ذلك التصوف والزوايا، اتخذت طابعا تعليميا وثقافيا واسعا، “فهذه الطرق لم تقتصر على العبادة، بل أسست لفضاءات حوار بين أتباع الديانات المختلفة، ونجحت في جذب الشباب عبر ما تقدمه من مجالس علمية وأنشطة اجتماعية وانخراط في الحياة العامة والسياسية”.
وتشير الجويني إلى أن بعض الانتقادات التي وجهها دارسون إلى التصوف في أفريقيا لا تتعلق بجوهره، بل بالممارسات الفردية داخل بعض الزوايا التي ابتعدت عن مسارها الأصلي.
تقول إن “التصوف، بطبيعته، يتلون ببيئة كل بلد، ويتأثر بأسئلتها وتاريخها واتجاهاتها الفكرية، وهو ما يفسر تنوع التجارب الصوفية بين دولة وأخرى في القارة الأفريقية”.
وصلت الطرق الصوفية إلى غرب أفريقيا في القرن الرابع عشر عبر محورين أساسيين، التجار والحجاج القادمين من شمال أفريقيا، والرواد العلميين. وهذا الانتشار التاريخي جعل التصوف جزءا من الثقافة المجتمعية.
ويشير الشيخ كوناتيه إلى أن التصوف وصل إلى غرب أفريقيا مع وصول الإسلام نفسه إلى هذه المناطق “عبر القوافل التجارية والحجاج خاصة من المغرب العربي”.
وتؤكد الجويني أن غرب أفريقيا متأثر بشمال أفريقيا بشكل واضح، “الإسلام دخل من الشمال قبل الغرب، لذلك نجد أن الطرق الشاذلية والتيجانية وغيرها موجودة في السنغال وبلدان الساحل، ولها أصول في المغرب الإسلامي”.
لا يمكن فهم النفوذ الصوفي في غرب أفريقيا دون الحديث عن المغرب، الذي لعب دورا بارزا كجسر روحاني وثقافي بين شمال أفريقيا وغربها، واحتضن لقرون أهم الزوايا الصوفية، وبات اليوم يصدر ما يعرف بـ”الإسلام المعتدل”.
يخبرنا الشيخ كوناتيه أنه درس على أيدي علماء من السنغال تخرجوا من معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين في الرباط، المعهد نفسه الذي خرج مئات الأئمة الأفارقة من مالي والسنغال والنيجر وتشاد، ضمن رؤية رسمية تعتبر التصوف “قوة ناعمة” لتعزيز الاستقرار الروحي ومواجهة الفكر المتطرف.
وتضيف الجويني أن عددا من الطلبة الأفارقة الذين يدرسون في شمال أفريقيا يأتون حاملين شغفا واضحا بفهم مراتب التصوف وأخلاقياته، لأنهم يرونه طريقا لمحاربة التشدد في بلدانهم، وأن هذا النوع من الدبلوماسية الدينية يعزز نفوذ تيارات إسلامية معتدلة وصوفية في هذه البلدان، ولكن رغم طابعها الروحي تدير الزوايا الصوفية موارد مالية مهمة.
ففي السنغال مثلا يجذب موسم الحج إلى مدينة طوبى، معقل الطريقة المريدية، أكثر من ثلاثة ملايين زائر سنويا، وتقدر العائدات بملايين الدولارات التي توجه لمشاريع تعليمية وخيرية.
وتأتي الأموال، أيضا، من التبرعات، والوقفيات، ودعم الجاليات الأفريقية في أوروبا والخليج، إضافة إلى مساعدات حكومية في بعض الدول.
أما المغرب فيقدم دعما مؤسساتيا مباشرا عبر برامج وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ومعهد تكوين الأئمة.
هذه الأموال كلها تصب في دعم هذه المجتمعات للوقوف بوجه الجماعات المشتددة، التي تتمول بدورها عبر الفدية والخوات التي تفرضها في القرى المنكوبة، إضافة إلى تحويلات مالية مشبوهة من الخارج، تقدرها تقارير أممية بعشرات الملايين سنويا، ما يمنحها قدرة على منافسة الزوايا الصوفية في استقطاب الشباب.
تقول الجويني، إن التصوف يخفف من حدّة التطرف، لكنه لا يقضي عليه تماما، إذ سرعان ما امتلأت هذه الزوايا بدوافع أخرى سياسية أو جيوسياسية، “بعض طرق التصوف في أفريقيا تتأثر أحياناً بالسياسة أو تخضع لتعيينات ذات طابع سياسي”.
وتلفت الجويني إلى ما يُعرف بـ”التصوف الحركي” الذي يشارك أحيانا في الحياة العامة. وترى أن قوة التصوف تكمن في مرونته الفكرية والثقافية، فهو يتكيّف مع محيطه، ويأخذ من ألوان الشعوب وثقافاتها، لذلك نجد تنوّعا في التجربة الصوفية بين شمال أفريقيا وغربها.
“المفردة الدينية في أفريقيا تأخذ لون البيئة وتاريخها وأسئلتها، والتصوف جزء من هذه الحركة الفكرية الحيّة”.
تشير أوراق بحثية وتقارير سياساتية من مراكز مثل بروكينغز والمعهد الأميركي للسلام USIP ودوائر بحثية أفريقية اطلعنا عليها إلى أن التصوف يستخدم أحيانا كقوة ناعمة لمواجهة الخطاب المتشدد لأنه يقدم شبكات اجتماعية ودعماً مادياً وثقافياً للشباب.
في شمال نيجيريا، نجحت الطرق الصوفية في الحد من انتشار جماعات مثل بوكو حرام، عبر خطاب وسطي ركز على الأخلاق والتعليم الديني السلمي. وتشير دراسة صادرة عن مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات FDD إلى أن الفقر والبطالة والأمية هي الأسباب الأساسية لانخراط الشباب في الجماعات المتطرفة، وأن الزوايا الصوفية حين تقدم التعليم والمساعدة، تقل نسب التجنيد بشكل واضح.
يقول الشيخ كوناتيه إن الزاوية الصوفية في قريته لم تحصل على دعم مالي كبير، وتعتمد على مساعدات محلية محدودة. مع ذلك، انتسب عشرات الشبان لهذه الزاوية، وهم يفضلون الانتماء إلى الصوفية التي تملك ما لا تملكه باقي التنظيمات. “إذا كان المجتمع يطمح إلى التماسك الاجتماعي فالتصوف له دور في ذلك. هو يعزز المحبة والسلام والأخوة، ويحارب التطرف والأهام، ويخلق مجتمعا متوازنا روحيا،” يقول.
في مناطق الساحل، حيث تغيب الدولة وتنتشر جماعات تابعة للقاعدة وداعش مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وولاية غرب أفريقيا، يستمر الصوفيون في محاولاتهم التواصل مع الشباب. لكنهم فعلا يحتاجون إلى دعم رسمي ومؤسساتي من الحكومات والمنظمات الدولية لمنافسة تلك الجماعات الممولة والمنظمة بشكل دقيق.
تقول الجويني لـ”الحرة” أنه ليس التصوف هو الاتجاه الوحيد في الساحة في غرب أفريقيا، “هناك من يتربّص به، بل ويكفّر المتصوفة بحجة انحرافهم العقائدي، خصوصاً أن بعض الطرق، مثل التيجانية، تؤمن بمفاهيم فلسفية عميقة كـ “وحدة الوجود” و”وحدة الشهود”، وتغوص في رموز ومعانٍ روحية عالية”.
وتضيف أن الاختلافات الثقافية داخل القارة تجعل تقبّل التصوف أمرا متفاوتا بين بلد وآخر، فهناك من يفهم هذا البعد الروحي ويقدّره، وهناك من يراه انحرافاً، لكن القاسم المشترك بين الجميع هو الإعجاب بالجانب التعليمي والثقافي والسلمي الذي يميز ثقافة التصوف في أفريقيا.”
رغم تمدد الجماعات المتشددة، تقدر مراكز الأبحاث أن نحو 60 مليون مسلم في غرب أفريقيا ينتسبون إلى إحدى الطرق الصوفية الكبرى، وهو رقم يتجاوز عدد أتباع الجماعات السلفية أو المتشددة في المنطقة بأضعاف.
اليوم تقف دول غرب أفريقيا أمام مفترق حاسم في جهود مكافحة التطرف، بين الاستسلام لصوت الرصاص أو الإصغاء لصوت الذكر القادم من زوايا طينية، يردده الشيخ لقمان كوناتيه بهدوء على مسامعنا: “حين يهدأ القلب، لا مكان للكراهية، والتصوف هو طريق القلب”.