السعودية.. من النفط إلى السرد

Loading

نصف سكان هذا الكوكب يشتركون في شغف واحد: الألعاب الإلكترونية.

السعي إلى تحقيق هذا الشغف مكلف لأصحابه، لكنه، في المقابل، يدرّ أرباحاً لشركات الألعاب الإلكترونية تقدّر بنحو 220 مليار دولار سنويّاً.

لعقود طويلة، ظلّت خريطة القوة في عالم الألعاب شبه ثابتة. تهيمن عليها اليابان عبرNintendo  وPlayStation والولايات المتحدة من خلال Xbox، تتبعهما قوى فاعلة كالصين وكوريا الجنوبية وفرنسا.

اليوم تغيّر هذا الواقع. لقد دخل إلى الساحة لاعب جديد هو المملكة العربية السعودية.

قبل نحو أسبوعين، استحوذ صندوق الاستثمارات السعودي وتحالف يضم شركتي “سيلفر ليك” و”أفينيتي بارتنرز” على شركة إلكترونيك آرتس (EA) الأميركية العملاقة مقابل 55 مليار دولار، في أكبر صفقة بتاريخ صناعة الألعاب الإلكترونية.

ولم تكن هذه الخطوة وليدت الصدفة، بل جزء من رؤية أوضحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بقوله: “إنها واحدة من أهم الرياضات حول العالم، وواحدة من أكثر الصناعات نموا على هذا الكوكب، إذ تنمو بمعدل 50% كلّ عام، ويجني صندوق الاستثمارات العامة أرباحاً استثمارية تبلغ نسبتها بين 15 و20% كلّ عام. هذا أمر رائع لا أودّ أن أضيّعه”.

هذا النوع من الاستثمار، الذي يغيّر “موازين القوى التقليدي” في عالم الألعاب الإلكترونية، فتح الباب أمام سؤال مهم جداً: هل ستظل هذه الصناعة مدفوعة بأهداف تجارية بحتة، أم أنها تخضع، بشكل متزايد، لأهداف ومعايير سياسية؟

نحو الاقتصاد الرقمي

يرى خبراء أن الاستثمارات السعودية الضخمة في شركات الألعاب الإلكترونية تشكّل تحوّلاً مقصوداً ومدروساً في هوية المملكة.

وتوضح دانيا العريسي، الباحثة في معهد نيولاينز للاستراتيجية والسياسة، أن “انتقال صناديق الاستثمار العامة إلى مجال الألعاب يشير إلى تحوّل مقصود في اتجاه البلاد من الاعتماد على الموارد إلى أن تصبح قوة مؤثرة قائمة على المنصات في الاقتصاد الرقمي”.

على أن الأهم هو أن هذا التحوّل ليس اقتصادياً فقط، بل ينطوي على أبعاد رمزية عميقة، فالمملكة حين تستثمر مليارات الدولارات في شراء حصص من شركات مثل EA، التي تمتلك حقوق تطوير ألعاب عالمية الانتشار مثل FIFA  وApex Legends، إنما تستثمر في لغة المستقبل، لغة الشباب والبيانات والذكاء الاصطناعي.

ويعتقد الباحث في معهد الشرق الأوسط، روبرت موجيلنيكي، أن هذه الخطوة تمثل رهاناً ذكياً على المستقبل، وهي، بنظره، “طريقة للاستفادة من شريحة سكانية شابة على مستوى العالم، تجعلها أكثر دراية بالسعودية وتتحدث لغتها، إذا جاز التعبير”.

بهذا المعنى، لم تعد الاقتصادات الصاعدة مجرّد مموّل خارجي، بل أصبحت شريكاً فاعلاً في تشكيل المنصّات التي يتفاعل معها مئات ملايين البشر، وهو ما يضعها في موقع مؤثر داخل النظام الاقتصادي العالمي، ويُجبر عمالقة التكنولوجيا مثل Sony وMicrosoft على إعادة تقييم التحالفات والاستراتيجيات المستقبلية، كما يؤكد الخبراء.

“الوعي الثقافي الإلكتروني”

على مستوى الأبعاد غير الاقتصادية، يتيح التأثير في الألعاب للدول المعنية تجنّب المحتوى الذي يتعارض مع قيمها، ويمنحها الفرصة للترويج للسياحة فيها.

“القوة الحقيقية لا تكمن في الدعاية المباشرة، بل في التأثير الخفيّ على السرد” تقول العريسي. تضيف: “قد يقومون، على سبيل المثال، بتضمين المدن السعودية كساحات للألعاب الإلكترونية في المستقبل. لا يكمن الخطر في الدعاية، بل في سرد القصص بشكل انتقائي”.

وقد جاء التغيّر الكبير في أدوات النفوذ والتأثير في العقود القليلة الماضية ليرسّخ القناعة بأن الألعاب الإلكترونية باتت حاسمة في تشكيل الوعي الثقافي لممارسيها.

في هذا السياق، يؤكد الدكتور شاويو يوان، الباحث المتخصص في السياسة الخارجية الصينية والقوة الناعمة، أنه “في القرن الحادي والعشرين، تتدفّق القوة من خلال المنصّات والبيانات وعناوينIP . من يمتلك أو يؤثر على هذه القاعدة يمكنه تحديد طريقة تواصل مليارات الأشخاص ولعبهم وحتى تفكيرهم. لذا، فإن هذا الاستثمار يشير إلى تحوّل أعمق، ويوضح أن الحدود القديمة بين منتجي التكنولوجيا ومستهلكيها آخذة في التلاشي”.

على أن الأمر لا يخلو من مخاطر. تقول العريسي: “إذا شعر اللاعبون أن الألعاب تُستخدم لأغراض سياسية، وليس للترفيه فقط، فمن المرجح أن يقاطعوها”.

ومن هذا المنطلق، يتوقّع أن تلجأ الشركات المعنية إلى إصدار نسخ إقليمية تراعي اختلاف القيم والثقافات بين الشرق والغرب، في محاولة لإيجاد توازن دقيق بين متطلبات السوق والرسائل الموجهة.

الاستثمار في المستقبل

في العقود الأخيرة من القرن الماضي، اعتمدت السعودية على ركائز عدة في تأكيد مكانتها في النظام العالمي: الموقع الجعرافي، الموارد الطبيعية، الوفرة المالية، المعالم الدينية وغيرها.

اليوم، ثمة ركيزة جديدة هي الاستثمار في قطاع الألعاب الإلكترونية.

يشير الدكتور جيمس دورسي، الباحث في معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية إلى أن “هذا أمر يمنح السعودية نفوذاً وتأثيراً جيوسياسياً، مع ما يعنيه ذلك من قدرة على التأثير في السياسات”.

على هذا النحو، حجزت السعودية كرسياّ حول طاولة القوى الكبرى في عالم الألعاب الإلكترونية، وتحوّلت من مجرّد زبون يستهلك التكنولوجيا إلى أحد صنّاع قرار الاقتصاد الرقمي العالمي، وهو ما جعلها مع دول أخرى مثل الإمارات، تؤثّر في اقتصادات دول غربية، وفقاً لدورسي، التي توضح أن ذلك “يتم من خلال قرار اقتصادي ذكي للغاية بالحصول على منصّة مهمة يمكنها التأثير على أعداد كبيرة من المواطنين والأفراد في جميع أنحاء العالم، وخاصة في العالم الغربي”.

إزاء كلّ ذلك، يتضح أن معركة النفوذ القادمة لن تدور حول من يملك النفط، بل من يملك السرد. فمن يتحكّم في القصص التي نلعبها، والشخصيات التي نتقمّصها، والخيال الذي نتفاعل معه، إنما يتحكم في جزء أصيل من وعينا الثقافي كأفراد ومجتمعات.

يختصر الدكتور يوان هذا الواقع بالقول إن “القوة لم تعد تتعلق بمن يتحكّم في الموارد، بل بمن يصمم العالم الذي نعيش فيه”.