حرب إسرائيل الصامتة في الجنوب السوري

Loading

على الطرق الترابية المتعرّجة بين درعا والقنيطرة جنوبي سوريا، تمرّ دوريات إسرائيلية بين الحين والآخر، فيما تنصب وحدات أخرى نقاط تفتيش مؤقتة، وتنفّذ مداهمات واعتقالات داخل العمق السوري.

مشهد بات مألوفا هناك منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، ويعكس مرحلة جديدة من الحضور الإسرائيلي العلني في منطقة طالما كانت ساحة نفوذ متشابكة بين إيران وحزب الله وفصائل محلية مسلحة.

يقول الجيش الإسرائيلي لـ”الحرة” إن تلك العمليات تعكس “يقظة وحداته العاملة على الحدود واستمرار الجهود لإحباط محاولات التسلل والتهريب في منطقة تُعد من أكثر الجبهات تعقيدا”.

وبينما تبرّر إسرائيل عملياتها تلك بأنها “دفاعية ووقائية”، يرى مراقبون أن ما يجري يعيد رسم خريطة النفوذ في واحدة من أكثر مناطق سوريا حساسية، ويفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل درعا والقنيطرة، ومن يملك الكلمة الفصل هناك.

تكمن أهمية درعا (108 كيلومترات جنوبي دمشق) في أنها كانت مهد الثورة السورية ومدخل الجنوب، وتشكل صلة وصل بين دمشق والحدود الأردنية، ما يجعلها بوابة التجارة والتنقل بين سوريا والأردن والخليج.

وتحاذي القنيطرة (67 كيلومترا جنوبي دمشق)، مباشرة مرتفعات الجولان، وتشرف على خطوط التماس مع إسرائيل، ما يمنحها ثقلا أمنيا وعسكريا بالغ الحساسية.

وثقت “منظمة مراقبة حقوق الإنسان السورية” (إيتانا) ما يقرب من 200 عملية توغل إسرائيلية في الجنوب السوري منذ أواخر عام 2024، بما فيها 130 توغلا بريا.

وقالت المنظمة إن منطقة التوغلات الإسرائيلية في الجنوب شملت حوالي 600 كيلومتر مربع من الأراضي السورية.

من بين هذه العمليات واحدة استهدفت عناصر في حماس جرى تنفيذها في يوليو الماضي وأسفرت عن اعتقال عدد منهم، وفقا للجيش الإسرائيلي.

جرت الاعتقالات في بلدة بيت جن، على بعد نحو 50 كيلومترا جنوب غربي العاصمة دمشق، بتهمة التخطيط لشن عمليات “إرهابية متعددة ضد مدنيين إسرائيليين وقوات الجيش الإسرائيلي في سوريا”.

وقال القوات الإسرائيلية إنها نجحت في مصادرة أسلحة وذخائر، فيما نُقل المعتقلون إلى إسرائيل لمزيد من التحقيق.

لم يصدر أي تعليق فوري من حركة حماس، بينما قال متحدث باسم وزارة الداخلية السورية إن سبعة أشخاص جرى اعتقالهم في غارة بيت جن، ونفى أنهم ينتمون لحركة حماس، بل مدنيون من المنطقة.

في الأشهر الأولى من تولي الإدارة السورية الجديدة، برئاسة أحمد  الشرع، أرسلت إسرائيل قوات إلى جنوب سوريا ونفذت غارات واسعة النطاق، لكنها بدأت بعد ذلك محادثات مباشرة مع المسؤولين السوريين لمنع نشوب صراع في المنطقة الحدودية.

توترت الأوضاع مجددا في مطلع يونيو، بعد إطلاق مقذوفات من سوريا باتجاه إسرائيل. وردّت إسرائيل بشنّ أولى ضرباتها بعد هدوء استمر نحو شهر. وفي الثامن من يونيو، نفّذت إسرائيل ضربة على أطراف بلدة بيت جن، استهدفت، بحسب وصفها، أحد أعضاء حركة حماس.

ولمعرفة حقيقة ما يجري، لابد من الحديث عن طبيعة الجماعات التي تنشط في درعا والقنيطرة قبل سقوط الأسد وما إذا كانت لا تزال ناشطة في المنطقة بالقدر ذاته.

“هناك فلسيطينيون أو مؤيدون لفكر حماس موجودون في المنطقة، لا يمكن أن ننكر ذلك” يقول مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن لـ”الحرة”.

و”كذلك هناك عناصر من داعش، وكانت المنطقة أيضا مسرحا لوجود مؤيدين لحزب الله اللبناني وإيران قبل سقوط النظام” السوري. لكن لا يمكن الجزم بأن هذه الجماعات لا تزال موجودة في مناطق درعا والقنيطرة، أو أنها ناشطة هناك بنفس زخم نشاطها السابق.

“فصائل مختلفة موجودة؟ هل تبدلت؟ هل غيرت فكرها؟ لا يمكننا معرفة ذلك في الوقت الحالي” يقول عبد الرحمن، مع الإشارة إلى أنهم حتى لو كانوا موجودين فلن يظهروا بسلاحهم بشكل علني.

وفقا للمرصد السوري السوري لحقوق الانسان، سجل شهر أكتوبر تصعيدا في عمليات التوغل الإسرائيلي في المنطقة، بنحو 18 توغلا جرت بشكل شبه يومي لغاية يوم 14 أكتوبر.

في المقابل، قال الجيش الإسرائيلي في تصريح خاص بـ”الحرة” أن اعتقل شخصين بعد رصدهما وهما “يحاولان إدخال خمسة مسدسات من الجانب السوري نحو الأراضي الإسرائيلية”.

وأكد مصادرة الأسلحة وتحويل المشتبه فيهم إلى الأجهزة الأمنية لاستكمال التحقيق.

وتحدثت وسائل إعلام محلية سوريا وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، عن اعتقال “خمسة سوريين قالت إنهم ينتمون لحماس”.

لكن، في موازاة ذلك، تتجنب مصادر عسكرية إسرائيلية التعليق بشكل مباشر على الأنباء الواردة من سوريا حول اعتقال عناصر يُعتقد أنهم مرتبطون بحماس. وتكتفي بالإشارة إلى أن “الأسابيع الأخيرة شهدت العديد من الاعتقالات داخل الأراضي السورية”، من دون تحديد الجهة المنفذة أو هوية المعتقلين، ما يضفي غموضا على طبيعة ما يجري خلف الحدود، وفقا لمراسل “الحرة” في تل أبيب، يحيى قاسم.

وفي بيان صدر مطلع الأسبوع الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي أن الفرقة 210 العاملة في الجنوب السوري نفذت خلال الشهرين الماضيين عشرات العمليات الدقيقة، استهدفت “بنى تحتية إرهابية” واكتشفت وسائل قتالية واعتقلت مشتبهين بأنشطة معادية.

وأوضح البيان أن قوات “اللواء 226 تواصل نشاطها على مدار الساعة في مهام دفاعية تهدف إلى ضمان أمن سكان هضبة الجولان والمناطق الشمالية لإسرائيل”، مشيرا إلى أن تلك العمليات تأتي ضمن جهود منع ترسيخ الوجود العسكري لفصائل مدعومة من إيران قرب الحدود.

تكشف هذه التطورات عن نمط ميداني متزايد يعتمد ما تسميه إسرائيل “الدفاع الوقائي” أو “الهجوم الاستباقي الصامت”، إذ “تعمل وحداتها في العمق السوري بشكل محدود ودقيق لتقويض قدرات خصومها من دون الانزلاق إلى مواجهة علنية”.

ورغم أن هذه السياسة تقلص من احتمالات التصعيد المباشر، فإنها تنطوي على مخاطر اندلاع مواجهات غير مقصودة مع أطراف محلية أو إقليمية، في منطقة تختلط فيها المصالح والتهديدات.

يتزامن هذا كله مع الحديث عن قرب توقيع اتفاق أمني بين إسرائيل والحكومة السورية الجديدة في دمشق، التي يقودها أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام.

وكانت إسرائيل أعلنت بعد سقوط نظام الأسد مباشرة أن اتفاقية فضّ الاشتباك الموقعة مع سوريا في عام 1974، لم تعد سارية، ووسعت انتشارها في المنطقة العازلة وجبل الشيخ، وأجزاء من القنيطرة. وأنشأت منذ ذلك الحين تسع قواعد ونقاطا عسكرية جديدة في ريف القنيطرة الجنوبي، بينها قاعدة الحميدية.

سوريا، من جانبها، تطالب بالعودة إلى اتفاقية فضّ الاشتباك، مع التركيز على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة بعد ديسمبر 2024، والحفاظ على سيادتها الوطنية.

ويخلص مراقبون إلى أن إسرائيل تسعى، عبر تحركاتها في القنيطرة ودرعا، إلى إنشاء “منطقة آمنة” في الجنوب السوري خارج نطاق المنطقة المنزوعة السلاح، رافضة العودة إلى الترتيبات التي كانت قائمة في عهد بشار الأسد.