هل تصبح ليبيا “رواندا جديدة” على المتوسط؟

Loading

في قلب العاصمة طرابلس، تحوّل ميدان الجزائر إلى مسرح لغضب متصاعد: هتافات تتعالى، ولافتات تلوّح بشعارات “لا للتوطين، ليبيا ليست رواندا”.

بين حشود المحتجين، يسود شعور بالقلق من أن تتحول البلاد، المنهكة بالحروب والانقسامات، إلى محطة جديدة لتوطين المهاجرين القادمين من عمق أفريقيا.

يتزامن هذا الغضب الشعبي مع تحذيرات دولية.

في تقرير صدر الاثنين، دعت منظمة هيومن رايتس ووتش إيطاليا إلى إلغاء اتفاقية التعاون مع ليبيا في ملف الهجرة، ووصفتها بأنها “إطار للعنف والمعاناة” مكّن خفر السواحل الليبي من إعادة عشرات الآلاف إلى مراكز احتجاز لا إنسانية.

وبينما تدعو منظمات حقوقية إلى وقف هذا “التواطؤ الأوروبي”، تتصاعد في الداخل الليبي مخاوف من أن تتحول البلاد، عن قصد أو من دون قصد، إلى رواندا جديدة على ضفاف المتوسط.

في مصراتة لم يكتف بعض المتظاهرين بالاحتجاج، فهاجموا الأسواق العشوائية التي أقامها المهاجرون، وحطموا الأكشاك وطاردوا عاملين فيها.

يأتي هذا الغليان الشعبي في ظل تداول أنباء عن صفقات وعروض بين السلطات في الشرق والغرب ودول غربية، كان آخرها العرض الذي قدّمه الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، إلى بريطانيا.

تعاون أمني أم صفقة سياسية؟

الجيش مستعد للتعاون مع المملكة المتحدة لاحتجاز المهاجرين غير النظاميين وترحيلهم قبل وصولهم إلى أوروبا عبر القناة الإنكليزية، قال لوسائل الإعلام البريطانية، الأسبوع الماضي، اللواء خالد السرير، نائب رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي.

وأضاف قوله: “نحن أيضا نسعى لوقف هذه المشكلة، دون أي مساعدة دولية تُذكر. لسنا بحاجة إلى المال، بل إلى تبادل الخبرات والتجارب”.

وبحسب مراقبين، أوضح المسؤولون الليبيون للبريطانيين أن ضبط حركة المهاجرين مرهون بدعم فني من الشركاء الدوليين، إذ تُقيد العقوبات الأممية المفروضة على ليبيا منذ 2011 قدرتهم على الحصول على معدات المراقبة والإنقاذ، ما يجعل السيطرة على تدفق المهاجرين مهمة شبه مستحيلة.

ويؤكد المحلل السياسي، كامل المرعاش، في حديثه لـ”الحرة”، أن العرض الليبي لم يكن مفاجئا، بل جاء تتويجا لسلسلة لقاءات رتّبها السفير البريطاني في ليبيا، مارتن لونغدن، مع المشير خليفة حفتر. “كانت المطالب الليبية واضحة في كل مرة: تزويد الجيش بمعدات حديثة لمراقبة الحدود ومحاربة الهجرة القادمة من عمق أفريقيا”.

ويقول المرعاش إن بريطانيا تميل إلى دعم حكومة الدبيبة في طرابلس، وكان السفير البريطاني يزور حفتر “بدافع المجاملة السياسية”، لكنه “يجد نفسه في حرج حين تُطرح قضية الهجرة، فبلاده تطالب الليبيين باحتوائها وتمنعهم في الوقت نفسه من امتلاك الوسائل اللازمة لذلك”.

وفقا لبيانات منظومة التتبع  (DTM) الخاصة بمنظمة الهجرة الدولية، بلغ عدد المهاجرين في ليبيا  894,890  مهاجرا من44  جنسية حتى شهر أكتوبر 2025، لكن وزارة داخلية حكومة الوفاق تقول إن الأعداد وصلت لنحو 2.5 مليون، معظمهم دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية.

وتشير التقديرات إلى أن نحو 90%  من هؤلاء دخلوا ليبيا بطرق غير نظامية أو يعيشون فيها دون وضع قانوني واضح، في حين لا يتجاوز من يملكون إقامات قانونية أو تصاريح عمل نسبة 10%، ويتمركز معظمهم في طرابلس ومصراتة.

تعمل الغالبية العظمى من المهاجرين  في الزراعة، وقطاع البناء، والخدمات المنزلية، والأنشطة غير الرسمية التي تشكّل مصدر رزقهم الرئيسي.

وذكر المحلل السياسي صلاح البكوش في حديث لـ”الحرة” أن “المشير حفتر يدعي أنه يسيطر على برقة في الشرق وفزان في الجنوب، لكن الهجرة غير الشرعية في الحقيقة تتدفق داخل البلاد من الحدود المصرية في الشرق ودول جنوب الصحراء”.

ويؤكد هذا الطرح بيانات منظمة الهجرة الدولية، التي تشير إلى أن القادمين من النيجر، السودان، تشاد، مصر، نيجيريا وبنغلاديش يشكّلون النسبة الأكبر من المهاجرين الموجودين في ليبيا، وهو ما يعكس أن الظاهرة تتجاوز حدود السيطرة الأمنية إلى نطاق إقليمي أوسع.

“حفتر يقدم عهودا بإيقاف الهجرة غير الشرعية كي يرفع عنه حظر السلاح ويكسب اعترافا سياسيا في الوقت الذي لا تحتاج فيه هذه الأزمة إلى أسلحة، بل مجرد معدات تكنولوجية، والاتحاد الأوروبي قدم مشروعا متكاملا منذ عام 2006 لكنه توقف عام 2011. هذه ورقة كان يستخدمها القذافي قبل ذلك واليوم حفتر يكرر نفس الأسلوب”، يضيف البكوش.

من رواندا إلى ليبيا: تكرار النموذج؟

الاتفاقية بين بريطانيا ورواندا كانت واحدة من أكثر خطط الهجرة إثارة للجدل في أوروبا. فقد نصّت على ترحيل طالبي اللجوء من الأراضي البريطانية إلى رواندا، حيث يُفحص طلبهم هناك. لكن الخطة انهارت بعد قرار المحكمة العليا البريطانية في 2023 التي وصفت رواندا بأنها “غير آمنة”.

من منظور بريطاني، تبدو ليبيا خيارا منطقيا. قرب جغرافي من البحر، سلطات محلية راغبة في التعاون، ومساحات واسعة يمكن تحويلها إلى نقاط احتجاز أو مراكز معالجة.

لكن البلد يعيش انقساما سياسيا، وفيه حكومتان تتنازعان الشرعية، ومؤسسات ضعيفة لا تملك القدرة القانونية أو الإدارية لحماية المهاجرين. فضلا عن ذلك، وثقت تقارير أممية آلاف المهاجرين في ظروف قاسية، أحيانا في سجون سرية تديرها ميليشيات.

ويستبعد المرعاش أن ترقى محادثات الجيش الوطني الليبي مع الجانب البريطاني مستوى صفقة شبيهة بصفقة رواندا.

“بريطانيا أصلا لا ترتاح في التعامل مع المشير حفتر لأنه يتمتع باستقلالية في قراراته وهو ما لا يتقبله الجانب البريطاني، الذي يبدو وكأنه غير مستعجل على حل هذه الأزمة،” يقول.

وحول احتمال تحول ليبيا إلى “رواندا جديدة” لتوطين المهاجرين، قال رئيس المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان أحمد حمزة لـ”الحرة” إن البلاد “لم تعد صالحة للعيش حتى لسكانها”، في ظل الفوضى الأمنية وغياب الاستقرار، مؤكدا أن الظروف الأمنية والإنسانية والقانونية لا تسمح بأي شكل باستقبال أو إيواء المهاجرين.

وأضاف أن “أي طرف سياسي أو عسكري لا يملك تفويضا من الليبيين للقبول بمثل هذه الصفقات”، معتبرا أن محاولات بعض القوى توظيف ملف المهاجرين مقابل دعم سياسي أو عسكري “أمر غير مقبول ويشكّل انتهاكا لإرادة الليبيين”.

صفقات أوروبية مختلفة لهدف واحد

في عام 2024، أعلنت المملكة المتحدة عن تقديم مليون جنيه إسترليني لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لدعم برامج إعادة الإدماج والحدّ من الهجرة غير النظامية. وقال وزير الهجرة البريطاني حينها، مايكل توملينسون، إن الاتفاق يهدف إلى دعم العودة الطوعية للمهاجرين ومنعهم من المخاطرة للوصول إلى أوروبا.

لكن وزير الداخلية الليبي، عماد الطرابلسي، انتقد ضعف التعاون الأوروبي، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي “يساعد فقط في منع المهاجرين من الوصول إلى أوروبا، دون المساهمة في إعادتهم إلى بلدانهم”. وأضاف أن “ما يجري على الأرض هو توطين فعلي للمهاجرين ولو بطريقة غير معلنة”.

ويرى طارق لملوم، رئيس مركز بنغازي لدراسات الهجرة واللجوء، أن سياسة الاتحاد الأوروبي “تركّز على المنع والرصد ودعم حرس الحدود”، مقابل رحلات عودة طوعية محدودة، ويقول إن الأوروبيين “يكتفون بإصلاح قوارب مطاطية بينما يتجاهلون الحلول الجادة”.

أما صلاح البكوش فيؤكد أن الأزمة “لن تُحلّ قبل إنهاء الانقسام السياسي”، مشيرا إلى أن بعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها إيطاليا، تحاول “شراء تعاون أطراف ليبية بدعم مالي غير معلن للحد من تدفق المهاجرين”.

وتوضح تقارير الأمم المتحدة أن ليبيا تحوّلت فعليا إلى جدار دفاع خارجي لأوروبا، حيث يُعترض المهاجرون ويُحتجزون في ظروف قاسية بدعم أوروبي مباشر. ويؤكد لملوم أن هناك “عملية منظمة لتجميع المهاجرين ونقلهم إلى مراكز قريبة من المطارات والسواحل”، مشيرا إلى أن مناطق مثل سرت والبريقة وطبرق أصبحت نقاطا نشطة لتجمّعهم.

ويضيف أن “كل هؤلاء الذين يُعادون من البحر يُستخدمون كورقة ضغط على الأوروبيين، إذ يمكن في ليلة واحدة إطلاق مئات المهاجرين لأن مراكز الاحتجاز قريبة جدا من الساحل”.

وبذلك، تختلف أدوات الصفقات الأوروبية بين تمويلات محدودة أو وعود تعاون، لكن الهدف واحد: إبقاء المهاجرين بعيدا عن الشواطئ الأوروبية بأي ثمن.

لعبة تبادل اللوم

على هامش منتدى الهجرة في طرابلس، يوليو 2024، أثار رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة جدلا واسعا حين قال إن “ليبيا بلد واسع ويمكن أن يستوطن فيه كثير من المهاجرين”.

ورغم قوله لاحقا إن التصريح “أُسيء فهمه”، رأى كثيرون فيه تمهيدا لصفقة محتملة مع الأوروبيين، ما فجّر موجة رفضٍ شعبي وسياسي اضطرته للتراجع والتأكيد أن “ليبيا لن تكون موطنا للهجرة غير النظامية”.

لكن خطوات حكومته زادت الشكوك، خصوصا بعد تخصيص مساكن للمهاجرين “تمهيدا لإعادتهم”، وهو ما فُسّر محليا كغطاء لتوطين فعلي. في المقابل، استغلّ رئيس الحكومة المكلّفة من البرلمان، أسامة حماد، الموقف لمهاجمة الدبيبة، معتبرا أن خططه “المرحلية” نحو تنظيم سكن المهاجرين هي الخطوة الأولى للتوطين.

ويشير طارق لملوم إلى أن اللواء محمد المرحاني، رئيس اللجنة الفنية للهجرة في طرابلس، خصص عمارات جمعية الدعوة الإسلامية لإقامة نحو 390 مهاجرا بنغلاديشيا دون تنسيق مع الجهات المختصة، ثم استقبل بنفسه سفير الاتحاد الأوروبي في زيارة وصفها لملوم بـ”الدعائية”.

لاحقًا، صعّد الدبيبة المواجهة باتهامات مبطّنة لحفتر وهيئة الاستثمار العسكري في بنغازي، متحدثا عن نقل مهاجرين أفارقة تحت غطاء العمالة واستقدام آخرين عبر عبر خطوط طيران سورية، وهي اتهامات نفتها الهيئة.

وردّ معسكر الشرق سريعا عبر وزير الدولة للاتصال في طرابلس، وليد اللافي، الذي اتهم سلطات حفتر في مقال في صحف أوروبية بـ”انتهاك الكرامة الإنسانية” وتحويل أزمة الهجرة إلى “أداة سياسية لابتزاز أوروبا”.

في المقابل، حاول حماد تقديم نفسه للأوروبيين كشريك أكثر “انضباطًا”، مؤكدا أن حكومته أنشأت مراكز استقبال لإعادة المهاجرين، لكنه شكا من تجاهل الاتحاد الأوروبي، قائلا: “نحن من نصنع الاستقرار الحقيقي في ليبيا، لكنهم لا يتعاونون معنا”.

وهكذا، تحوّل ملف المهاجرين من قضية إنسانية إلى ورقة ضغط سياسية في صراع الشرعية بين الشرق والغرب.

ويقول الحقوقي أحمد حمزة إن المسؤولية تقع على عاتق الأوروبيين، موضحا أن “الاتحاد الأوروبي اختزل الأزمة في بعدها الأمني وتجاهل مسؤولياته القانونية والإنسانية، محاولا ترحيل المشكلة إلى دول الجنوب، وعلى رأسها ليبيا”.

وبينما تتبادل القوى الليبية الاتهامات في ما بينها ومع دول أوروبية، تذكّر تقارير المنظمات الحقوقية، وعلى رأسها هيومن رايتس ووتش، بأنّ ثمن هذه السياسات يُدفعه المهاجرون الذين يُعادون قسرا إلى مراكز احتجاز تسيطر عليها ميليشيات وتُرتكب فيها انتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.

وتقول المنظمة إنّ استمرار الدعم الأوروبي لخفر السواحل الليبي يعني “تمويل العنف وإضفاء الشرعية عليه”، في وقتٍ تحولت فيه ليبيا، الغارقة في الفوضى إلى مسرح لأزمة أوروبية تُدار من بعيد.