لطالما تقاطعت العلاقات بين لبنان وسوريا بالمصالح التي جمعت بين النظام في دمشق وأطراف لبنانية. ولعقود طويلة، ظلّت تتأرجح بين “الوصاية” والتداخل والتعاون والتباعد.
وبعد سقوط نظام بشار الأسد، الحاضن الاستراتيجي لحزب الله، بدت الحاجة ملحّة إلى إعادة صياغة هذه العلاقة وفق أسس جديدة، والتخلص من “أثقال الماضي”، وحلّ الملفات التي ما تزال عالقة بين البلدين، بدءاً من ترسيم الحدود البرية، وصولاً إلى منع التهريب عبر الحدود، مروراً بمسألة المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية ومصير المختفين اللبنانيين في سوريا.
في خضمّ هذا المشهد المعقّد، جاءت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت، يوم الجمعة الماضي، لتعيد تحريك المياه الراكدة. زيارة استثنائية في توقيتها ودلالاتها، ليس لأنها الأولى لوزير في حكومة الرئيس أحمد الشرع، فحسب، بل لأنها حملت رسائل سياسية، ليس أقلّها استبعاد رئيس مجلس النواب نبيه بري، حليف حزب الله، من جدول اجتماعاته الرسمية.
اليوم، يجد حزب الله نفسه أمام واقع جديد تُرسم فيه خطوط النفوذ بطريقة لا تخضع بالكامل لحساباته. وبين الدولة اللبنانية التي تحاول تأكيد استقلالية قرارها في مقاربتها للعلاقة مع سوريا، والحزب الذي يسعى للعب دور في اتخاذه، تبدو بيروت أمام اختبار جديد لمعادلة السلطة والنفوذ في علاقاتها الخارجية. فهل تنجح الدولة اللبنانية في رسم سياستها تجاه دمشق بمعزل عن إرادة الحزب، أم أن نفوذ الأخير سيظل مسيطراً على خيوط اللعبة؟
صفحة جديدة
شدد الشيباني، خلال زيارته، على أنها تمثّل تحوّلاً جذرياً في طبيعة العلاقة بين البلدين، من عهد النظام السابق إلى “علاقة مبنية على الاحترام بين الأشقاء”. أضاف: “فتحنا اليوم صفحة جديدة ومشرقة في العلاقات بين سوريا ولبنان”.
وعقد الوزير السوري خلال زيارته اجتماعات منفصلة مع رئيسي الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام ونظيره اللبناني يوسف رجي، تطرّقت إلى تشكيل لجان مشتركة لمعالجة الملفات العالقة بين البلدين، ومنها ضبط الحدود والمعابر ومنع التهريب، وتسهيل العودة الآمنة للاجئين السوريين، وملف المعتقلين والمخطوفين.
وقال رجي إن “ما يميّز هذه المرحلة هو احترام الإدارة السورية الجديدة للسيادة اللبنانية واستقلال القرار الوطني، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”.
ويرى الكاتب والباحث السوري عمر كوش أن زيارة الشيباني إلى بيروت تشكّل محطة مهمة في مسار العلاقات اللبنانية–السورية، إذ “تمثل بداية صفحة جديدة عنوانها الشراكة الاقتصادية والأمنية، والقطيعة مع إرث الوصاية القديمة”.
ويقول كوش لموقع “الحرة” إن الزيارة تأتي “في ظلّ مرحلة انتقال سياسي جديدة تعيشها سوريا، تسعى خلالها الإدارة الحالية إلى الانفتاح على العالم ودول الجوار، بهدف إعادة تموضع سوريا كدولة طبيعية، بعد سنوات من العزلة”.
وسبق هذه الزيارة لقاءات بين مسؤولين سوريين ولبنانيين عقدت في أكثر من مناسبة، أبرزها اجتماعان للشرع وعون على هامش القمة العربية في القاهرة في مارس الماضي، والقمة العربية الإسلامية في الدوحة في سبتمبر الماضي.
خطوة متوقّعة
تزامنت زيارة الشيباني إلى بيروت مع إعلان دمشق، عبر سفارتها في لبنان، تعليق عمل المجلس الأعلى اللبناني–السوري وحصر جميع المراسلات بين البلدين بالطرق الرسمية الدبلوماسية.
ويأتي هذا القرار بعد أكثر من ثلاثة عقود على تأسيس المجلس الأعلى في 22 مايو 1991، بموجب “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” في عهدي الرئيسين السابقين السوري حافظ الأسد واللبناني إلياس الهراوي.
وتألّف المجلس من رئيسي جمهورية البلدين، ورئيسي حكومتي البلدين ونائبيهما، بالإضافة إلى رئيسي مجلس النواب اللبناني ومجلس الشعب السوري، وتمثلت صلاحياته في وضع السياسة العامة للتنسيق والتعاون بين الدولتين في كافة المجالات، والإشراف على تنفيذها.
ويُعد وقف العمل بالمجلس الأعلى اللبناني–السوري، كما يقول العميد المتقاعد في الجيش اللبناني جورج نادر، لموقع “الحرة” “خطوة كان يجب اتخاذها منذ زمن طويل، وتحديداً منذ انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، إلا أن غياب الجرأة السياسية لدى المسؤولين اللبنانيين حال دون ذلك في تلك المرحلة”.
كذلك يرى رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية، شارل جبور، أن إلغاء المجلس الأعلى اللبناني–السوري “خطوة طبيعية وبديهية”، مشيراً في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “هذا المجلس نشأ في زمن الاحتلال السوري للبنان، ولا يمكن لنظام سوري جديد، عانى من هذا الاحتلال حيث كان نظام الأسد يسيطر على سوريا بالقوة، أن يستمر في التعامل مع ملفات قديمة”.
بين الوصاية والتدخّل
تعود جذور العلاقة بين لبنان وسوريا إلى ما قبل استقلالهما عن فرنسا في أربعينيات القرن الماضي. وعلى مر السنوات، ترسّخت تدريجياً علاقة غير متكافئة بينهما، تمتعت خلالها دمشق بنفوذ سياسي وأمني كبير في لبنان.
ومع دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 تحت مسمّى “قوات الردع العربية” خلال الحرب الأهلية اللبنانية، زاد الخلل باتساع النفوذ الأمني السوري في البلاد.
ورغم أن اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب اللبنانية، نصّ على انسحاب القوات السورية، فإن دمشق قوّضت تنفيذ هذا البند عملياً، مستندةً إلى سلسلة من المعاهدات بين البلدين، أبرزها معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق في مايو 1991، التي أفضت إلى تأسيس المجلس الأعلى اللبناني–السوري، وشرّعت الوجود العسكري والسياسي السوري في لبنان. كما وُقّع في سبتمبر من العام نفسه ميثاق للدفاع والأمن بين البلدين، ما عزّز هذا الواقع.
وبعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، اضطرت سوريا إلى سحب قواتها من لبنان تحت ضغط الشارع اللبناني وقرار مجلس الأمن 1559، إلا أن نفوذها بقي قائماً عبر حلفائها المحليين، وعلى رأسهم حزب الله.
وازدادت العلاقة تعقيداً منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث تبنّى لبنان الرسمي سياسة “النأي بالنفس” عمّا يجري في سوريا، بينما انخرط حزب الله في القتال إلى جانب قوات النظام عام 2013.
وشكّل سقوط نظام بشار الأسد لاحقاً زلزالاً سياسياً في معادلات الشرق الأوسط، إذ أفقد “محور الممانعة” ركنه الأساسي بين طهران وبيروت، وجرّد حزب الله من عمقه الاستراتيجي وجسره الحيوي للإمداد العسكري.
عقبات أمام الانفتاح
لم يكن نظام بشار الأسد مجرّد حليف سياسي أو “بوابة جغرافية” لحزب الله، بل شكّل ركيزة وجودية في معادلة “محور الممانعة” الذي يُعد الحزب أحد أبرز أركانه.
وبعد سقوط النظام السوري، برّر الأمين العام للحزب نعيم قاسم، في ديسمبر 2024، دعمه للأسد بأنه “واجه إسرائيل وأسهم في نقل الأسلحة من الأراضي السورية إلى لبنان وفلسطين”، معرباً عن أمله بأن “يقف النظام الجديد إلى جانب لبنان على أساس المساواة، وأن تبقى إسرائيل عدواً لا يُطبّع معها”.
وتتلاقى مواقف الحزب تجاه سوريا مع التوجّهات الإيرانية، إذ وصف المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي سقوط الأسد بأنه “نتاج خطة أميركية–إسرائيلية، بمشاركة دولة مجاورة لسوريا”، في إشارة إلى دور إقليمي ساهم في إسقاط النظام.
وفي مارس 2025، عبّر حزب الله عن دعمه للقيادة السورية الجديدة عبر مسؤول ملف الموارد والحدود في حزب الله، نواف الموسوي، الذي شدد على “ضرورة التعاون مع دمشق وتجاوز الخلافات”.
لاحقاً، في أغسطس 2025، أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع أن دمشق تسعى إلى “فتح صفحة جديدة مع لبنان، ولا تريد التحكم بقراره”. كما شدد على أنها “تجاوزت الجروح السابقة” الناتجة عن اعتداءات حزب الله عليها.
وبشأن ما إذا كان حزب الله سيشكّل عقبة أمام بناء علاقات طبيعية بين بيروت ودمشق، يرى كوش أن ذلك “غير مرجّح”، ويؤكد أن وضع الحزب اليوم يختلف جذرياً عمّا كان عليه في الماضي، “بعد مقتل عدد كبير من قادته وتعرّضه لضربات إسرائيلية موجعة، فضلاً عن تراجع نفوذه داخل لبنان”.
ومع ذلك، تبقى العلاقات بين بيروت ودمشق متأثرة وفق كوش “بإرث المرحلة السابقة، ولا سيما دور حزب الله في الحرب السورية إلى جانب النظام السابق”.
وقد اصطدم انضمام الحزب للنظام السوري في القتال ضد قوات المعارضة برفض شعبي في لبنان وسوريا، لكنه آثر تجاوز هذا الرفض، نظراً لحاجته إلى “غطاء نظام دمشق” لتمرير امتدادات السلاح من إيران عبر الأراضي السورية.
يرى نادر أن “النظام الجديد في دمشق ينظر إلى حزب الله على أنه لعب دوراً سلبياً في الحرب من خلال مشاركته العسكرية إلى جانب نظام الأسد، فيما حزب الله لم يعد في موقع يمكّنه من التحكم أو الاعتراض على مسار العلاقة بين لبنان وسوريا، وهو غير مرتاح للتوجّهات الجديدة”.
ويضيف إن “استبعاد الوزير الشيباني لقاء بري يشكّل مؤشّراً واضحاً على التوتر غير المعلن بين النظام السوري الجديد والثنائي الشيعي”.
واقع جديد
لا يمكن فصل العلاقات بين لبنان وسوريا عن مصير الملفات الداخلية التي تنتظر الحسم فيهما، فقدرة حزب الله على التأثير على مستقبل هذه العلاقات مرتبطة بمسألة نزع سلاحه.
“لبنان غير معني بما يريده حزب الله، والأخير فقد نفوذه على السلطة التنفيذية”، كما يؤكد جبور، ويشدد على أن “رسم سياسة لبنان يجب أن يخضع للمصلحة الوطنية العليا، لا لمصالح حزب الله أو إيران”.
ويتخوّف حزب الله من احتمال أن تشكّل العلاقات اللبنانية–السورية مدخلاً إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل في حال أقدمت دمشق على مثل هذه الخطوة.
لكن جبور يعتقد أن “ملف السلام لا يرتبط بالعلاقة اللبنانية–السورية، بل بالمبادرة العربية التي تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية”.
كذلك لا يمكن فصل مسار العلاقات بين دمشق وبيروت عن المشهد الإقليمي الحافل بالمتغيرات.
يرى نادر أن الترتيبات الإقليمية المقبلة، “سواء انفتح لبنان على سوريا أم لا، ستفرض واقعاً جديداً في المنطقة”، ويرى أن “القمة الأخيرة في مصر حول غزة والشرق الأوسط تشكّل محطة مفصلية في هذا الاتجاه، إذ ما رُسم قد رُسم، والدول العربية تتجه نحو خيارات جديدة: إمّا التطبيع، أو السلام، أو على الأقل تجاوز القضية الفلسطينية”.
وكان عون أكد يوم الاثنين أنه “لا يمكن للبنان أن يكون خارج مسار تسويات الأزمات القائمة في المنطقة” مشدداً على أنه “لا بد لإسرائيل من وقف عملياتها العسكرية ليبدأ مسار التفاوض”.