من الخطأ أن نأخذ السلام بين مصر وإسرائيل كأمرٍ مُسلّم به. فما بدأ في منتصف السبعينيات كاتفاقات فك ارتباط متواضعة، ثم تحوّل على مدى نصف قرن إلى واحدة من أكثر العلاقات الأمنية ثباتًا في الشرق الأوسط، أصبح اليوم مهددا بسبب الوضع في غزة وما أدى إليه من توتر بين القاهرة والقدس. تقويض هذا السلام لا يهدد مصر وإسرائيل وحدهما، بل ينذر بخطر على المنطقة بأسرها وعلى القوى الدولية المعنية.
تعود العلاقة الأمنية المصرية–الإسرائيلية إلى اتفاق فض الاشتباك في سبتمبر 1975، الذي تضمّن التزام الطرفين بعدم استخدام القوة، وإنشاء محطة إنذار مبكر تحت سيطرة أمريكية، وانسحابًا إسرائيليًا من المضايق الاستراتيجية في سيناء. كان ذلك الاتفاق – الذي تفاوض عليه هنري كيسنجر – أول مرة يتفق فيها الطرفان على هيكل أمني، ومهّد الطريق لاتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام عام 1979.
منذ ذلك التاريخ، وعلى مدى خمسين عامًا، التزم الطرفان بوعودهم حتى في أحلك اللحظات. لم تنجح أي أزمة في كسر هذه العلاقة الأمنية: لا مناحيم بيغن وتخليه عن مفاوضات الحكم الذاتي للفلسطينيين، ولا غزوه للبنان، ولا عناد إسحق شامير ورفضه لمفاوضات السلام، ولا تراجع بنيامين نتنياهو عن اتفاقيات أوسلو، ولا قمع أرييل شارون العنيف للانتفاضة الثانية. كذلك لم تنجح في كسر هذه العلاقة محاولات ياسر عرفات جرّ مصر إلى المواجهات المسلحة خلال الانتفاضة الثانية، ولا صعود حركة حماس أو سيطرتها على غزة أو مواجهاتها المتكررة مع إسرائيل أو اختراقاتها للحدود. كذلك لم تغيّر هذه العلاقة الانتخابات المصرية التي أتت بالإخوان المسلمين الى الحكم عام 2012، ولا التمرّد الإسلامي المسلح في سيناء بعد الإطاحة بالإخوان في عام 2013. بل على العكس، دفعت هذه الأزمات مصر وإسرائيل إلى توثيق التعاون فيما بينهما، وإن تم ذلك بعيدا عن الأضواء. واليوم، ورغم الدمار في غزة وإعادة انتشار إسرائيل على الحدود، استمر هذا التنسيق.
صمود العلاقات المصرية الاسرائيلية وسط كل تلك العواصف يؤكد أهميتها لكلا البلدين.
فهذه العلاقة تمثل حجر زاوية في أمن البلدين القومي. بالنسبة لمصر، أتاح السلام لها أن تتجاوز التهديد الخارجي الرئيسي لأمنها، وأن تطور جيشها، وتركز على التحديات الداخلية التي تواجهها، وهكذا أصبحت التسوية السلمية للصراع العربي–الإسرائيلي جوهر سياسة مصر الخارجية. أما لإسرائيل، فكان السلام مع مصر أهم إنجاز في سعيها للتعايش مع جيرانها، وفاتحة لاتفاقات لاحقة مع دول أخرى. ضمن السلام لها الأمن على جبهتها الجنوبية، وسمح لها بتقليص حجم التعبئة العسكرية هناك والتركيز على تحديات أخرى. وبالنسبة للولايات المتحدة، شكّل السلام بين مصر وإسرائيل حالة نادرة من النجاح في دبلوماسيتها بالشرق الأوسط – برهانًا على أن الأعداء يمكنهم، بالضغط والحوافز والترتيبات الأمنية الصلبة، أن يتعايشوا سلميًا، وإن لم يكن بكثير من الود.
لكن مؤخرا ظهرت إشارات مقلقة عن مستقبل هذه العلاقات. اتهم قادة إسرائيليون مصر بالمسؤولية عن تهريب حماس للسلاح وبناء ترسانتها الحالية، ثم تواترت تقارير في الإعلام الإسرائيلي عن حشود وترتيبات عسكرية مصري في سيناء بما يتعارض واتفاقية السلام. من جانبها، شددت القيادة المصرية لهجتها، فحذر الرئيس عبدالفتاح السيسي من أن الإجراءات الإسرائيلية في حرب غزة تقوّض “معاهدات السلام القائمة”، ثم أعلنت القاهرة تخفيض مستوى تعاونها الأمني مع إسرائيل، وهكذا.
قد يكون بعض هذا مجرد أداء مسرحي سياسي: السيسي يتودد لجمهوره الغاضب من التدمير والقتل في غزة، ونتنياهو يرضي جناحه اليميني الغاضب. لكن هناك ما يدعو للقلق بشكل أكثر جدية.
فبعض الأصوات في إسرائيل تدعو إلى حل “مشكلة غزة” من خلال تهجير جماعي للفلسطينيين إلى سيناء. هذه الدعوات أثارت ردودًا غاضبة من مصر، وعمّقت الشكوك حول نوايا حكومة نتنياهو. الخشية أن يحاول المتطرفون في إسرائيل فرض هذا السيناريو بالقوة، بما يدفع مصر لاتخاذ إجراءات أمنية في سيناء، وهو ما قد يفاقم العداء الإسرائيلي ويغذي دوامة من انعدام الثقة والتصعيد المتبادل.
مثل هذا السيناريو قد يفلت سريعًا عن السيطرة، خاصة في سياق حرب غزة. فلن يكون ذلك أزمة عابرة يمكن احتواؤها بلا أثر طويل المدى. أي مواجهة مصرية–إسرائيلية، أو تهجير قسري لسكان غزة إلى سيناء، سيغير مشهد الأمن الإقليمي بطرق لا يسيطر عليها أي طرف. ومصر – رغم تراجع مكانتها – لا يجب الإقلال من شأنها. فانهيار سلامها مع إسرائيل قد يقلب سياستها الداخلية والإقليمية رأسًا على عقب، خصوصًا إذا اقترن بتهجير الفلسطينيين.
في منطقة يندر فيها الاستقرار، يمثل السلام المصري–الإسرائيلي عمودًا للأمن ثابتًا منذ نصف قرن. العبث به تحت تأثير أوهام قصيرة النظر، يعني فتح الباب لمستقبل أكثر ظلامًا وعنفًا. وهو ثمن لا يستطيع – ولا يريد – دفعه لا المصريون ولا الإسرائيليون ولا الأمريكيون.
خطة السلام في غزة قد تكون بداية لاحتواء هذا الخطر، خاصة إذا منعت فعلًا تهجير الفلسطينيين من غزة. لكن على واشنطن أن تقرن خطتها هذه بمكوّن ثنائي يأخذ بيد مصر وإسرائيل نحو العودة للتعاون العملي. لقد حافظت الدبلوماسية الأمريكية الهادئة والمتواصلة على هذا السلام من قبل، ويمكنها أن تفعل ذلك اليوم.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن كاتبها، ولا تمثل بالضرورة وجهة نظر شبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN) أو موقفها الرسمي.