![]()
تتدحرج في إسرائيل خلال الأيام الأخيرة كرةُ ثلجٍ سياسية–أمنية حول قضية باتت تُعرف محليًا باسم «قطر غيت»، وتتمحور حول شبهات بأن جهات قطرية موّلت عددًا من العاملين في مكتب رئيس الحكومة، بهدف تحسين صورة الدوحة داخل إسرائيل، في لحظة حرب وانقسام داخلي غير مسبوق.
عاصفة الاتهامات تطال أسماء قريبة من دائرة القرار، وفي مقدمتها إيلي فلدشتاين، الذي شغل منصب متحدث مكتب رئيس الحكومة للشؤون العسكرية، قبل أن يتحول إلى «شاهد من الداخل» في ثلاث حلقات متتالية بثّتها هيئة البث الإسرائيلية، كاشفًا روايات هزّت الشارع الإسرائيلي ودوائر سياسية وأمنية، من دون أن تهزّ – حتى الآن – رأس الهرم السياسي، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وهو ما فتح باب التساؤلات على مصراعيه.
بحسب رواية فلدشتاين، فإن ما بات يُعرف بـ«قطر غيت» لم يكن تصرفات فردية أو مبادرات جانبية، بل آلية عمل متكاملة نشطت داخل محيط مكتب رئيس الحكومة، هدفها – كما قال في اللقاءات المتلفزة – إعادة صياغة صورة قطر في الوعي الإسرائيلي، ولا سيما خلال الحرب، وحتى في بعض الأحيان على حساب الدور المصري. ويعرض فلدشتاين نفسه كجزء من منظومة اتصالية عملت على تمرير رسائل إلى وسائل الإعلام منسوبة إلى «مصادر سياسية أو أمنية رفيعة»، تُبرز الدوحة كوسيط لا غنى عنه في ملفات حساسة، مؤكّدًا في الوقت نفسه أنه قام بذلك دون علمه بالخلفية الحقيقية لهذه الرسائل أو بالأهداف الكامنة وراءها.
وفي شهادته، قال فلدشتاين إنه تلقّى أموالًا أثناء عمله في مكتب رئيس الحكومة من رجل الأعمال الإسرائيلي جيل برغر، الذي كان يمرّرها بدوره من جاي فوتليك، وهو مروّج يعمل لصالح الحكومة القطرية، وفق ما أوردته هيئة البث الإسرائيلية. رواية، إن صحّت، تنقل القضية من خانة نشاط دعائي مشبوه إلى شبهة علاقة مالية مباشرة بين جهات قطرية وأشخاص عملوا في قلب مؤسسة الحكم خلال الحرب.
ويؤكد فلدشتاين أن دائرة الاشتباه، وفق شهادته، لا تقتصر عليه، بل تشمل أسماء مركزية من داخل مكتب رئيس الحكومة، من بينها المستشار الإعلامي الأقرب لنتنياهو يوناتان أوريخ، ورئيس ديوان رئيس الحكومة تساحي برفرمان، إضافة إلى يسرائيل أينهورن، الذي تربطه – بحسب ما كُشف – مراسلات واتصالات ذات صلة بالرسائل التي صيغت لصالح الدوحة.
ويقدّم فلدشتاين رواية مفادها أن هذه الشخصيات كانت جزءًا من منظومة واحدة جرى خلالها تنسيق الرسائل، وتوزيع الأدوار بين من يصوغ الخطاب، ومن يمرّره للإعلام، ومن يوفّر الغطاء داخل المكتب. ووفق أقواله، فإن بعض هذه التحركات تمّ بعلم مباشر، وبعضها الآخر في ظل صمت أو تغاضٍ من مستويات عليا، ما حوّل «تلميع صورة الدوحة» من نشاط دعائي مشبوه إلى قضية سياسية–أمنية، لأن الرسائل – كما يزعم – خرجت من قلب المؤسسة الأكثر حساسية في الدولة.
وتتفرع القضية، إلى خطّين متداخلين: الأول يتصل بادعاءات عن حملة رسائل وتوجيهات إعلامية صيغت لصالح قطر وجرى تمريرها للصحافة الإسرائيلية بطرق ملتوية؛ والثاني يتصل بصراع داخلي داخل مكتب رئيس الحكومة على إدارة التسريبات والوثائق والضرر السياسي.
وتشير هذه التشعبات، كما ورد في التحقيقات الصحفية، إلى ما يشبه إخراج «غرفة التحكم» إلى العلن: من يكتب الرسالة؟ من يوزّعها؟ ومن يقرر متى تتحول إلى «حقيقة» في الفضاء العام؟
هنا، يتحول السؤال من «هل حدث ذلك؟» إلى «من سمح بأن يحدث؟». كيف يمكن لرسائل يُشتبه بأنها صُممت لخدمة دولة أجنبية أن تمر من محيط مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، في وقت حرب، دون أن تُقرع أجراس الإنذار؟ ولماذا لم تُوقف هذه الآلية قبل أن تتحول إلى فضيحة علنية؟
المعارضة الإسرائيلية سارعت إلى التصعيد. رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت اتهم دائرة نتنياهو بالعمل «بالأجر» لصالح قطر خلال الحرب، وذهب إلى حد وصف ما جرى بأنه «أخطر حدث خيانة» في تاريخ إسرائيل.
وقال خلال إن مسؤولية نتنياهو قائمة «سواء علم أو لم يعلم»، معتبرًا أن كلا الاحتمالين يستوجب الاستقالة الفورية وفتح تحقيق شامل. وفي كلمة متلفزة، اتهم بينيت مكتب رئيس الحكومة بالعمل لمصلحة قطر بدوافع مالية من داخل «قدس أقداس» المنظومة الأمنية، معتبرًا أن أي تعاون سري مع دولة وصفها بـ«العدو» خلال الحرب يشكل مساسًا مباشرًا بأمن الدولة وبجنود الجيش الإسرائيلي.
قمة مصيرية بين نتانياهو وترامب.. غزة وإيران وسوريا على الطاولة
في المقابل، قدّم زعيم المعارضة يائير لبيد مقاربة مختلفة في نبرتها، وإن لم تقل حدّة في مضمونها، إذ طالب بفتح تحقيق شامل ومستقل في قضية «قطر غيت»، واعتبرها اختبارًا حاسمًا لشفافية مؤسسات الدولة واستقلاليتها.
وأوضح لبيد أنه دعا في البداية رئيس الشاباك إلى إصدار تعليمات فورية بفتح التحقيق، قبل أن يشدد لاحقًا على ضرورة امتناع قيادة الجهاز عن التدخل المباشر في الملف، التزامًا بتعهدات سابقة وتوجيهات قضائية، وحرصًا على نزاهة التحقيق.
ودعا إلى أن يتولى نائب رئيس الشاباك إدارة التحقيق حتى انتهاء ولايته، محذرًا من أن أي تدخل سياسي أو تغيير في تركيبة قيادة الجهاز قد يؤدي إلى تمييع القضية أو إفراغها من مضمونها، مؤكدًا أن ما هو مطروح لا يشكل خلافًا سياسيًا، بل قضية تمس الأمن القومي وثقة الجمهور بمؤسسات الدولة.
وتزداد القضية تشعبًا بعد ما بثّته القناة الثانية عشرة، التي أشارت إلى استقالة نائب رئيس جهاز الشاباك في أعقاب تعيين دافيد زيني رئيسًا جديدًا للجهاز، وسط مخاوف أُثيرت من أن هذا التعيين قد يهدف إلى التأثير على مسار التحقيق في «قطر غيت». وبحسب ما أُعلن، جرى التوافق على أن يتولى نائب رئيس الشاباك إدارة التحقيقات، تفاديًا لتضارب المصالح أو لشبهة تدخل سياسي قد يبعد التحقيق عن مكتب رئيس الحكومة.
في موازاة ذلك، بدأت أصوات داخل الحكومة نفسها ترتفع، وإن بنبرة أكثر حذرًا. وزير الشتات عميحاي شيكلي وصف قضية «قطر غيت» بأنها صادمة ومزعجة للغاية، وقال إنه لا يملك أي وسيلة للدفاع عنها، داعيًا إلى فتح تحقيق كامل وشامل حتى النهاية. واعتبر أن المعطيات التي كُشفت حتى الآن «تبدو سيئة جدًا»، واصفًا العمل أو التعاون مع قطر بأنه «جريمة من حيث المبدأ»، ومشيرًا إلى أن ما نُشر يعزز خطورة الشبهات المطروحة.
أما وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، فحذّر من أن القضية تتجاوز أي أبعاد شخصية أو سياسية، وتمس مباشرة بأمن الدولة. وقال إن ما كُشف عن تسريبات ومواد أمنية حساسة من محيط مكتب رئيس الحكومة، في سياق القضية، يعرّض مصادر استخباراتية للخطر، ولا يمكن التساهل معه. وشدد على أن أي ارتباط أو تعاون غير مشروع مع جهات خارجية، وعلى رأسها قطر، يشكل مساسًا مباشرًا بالأمن القومي، ويستوجب فتح تحقيق معمّق وشامل لكشف الحقيقة كاملة ومحاسبة المسؤولين دون استثناء.
في ظل هذه التطورات، تتجه المطالبات نحو نتانياهو شخصيًا، ليس فقط بسبب الاشتباه بوجود حملة «تلميع» لقطر، بل بسبب ما يرويه فلدشتاين عن ديناميات العمل داخل المكتب، وما أعقب ذلك من دعوات رسمية من شخصيات أمنية–سياسية سابقة لفتح تحقيق عاجل في شبهات تمس أمن الدولة خلال الحرب، وعدم وقف سلسلة أفعال يُشتبه بأنها جنائية وأمنية.