![]()

كتب – علي تركمان
عملت بصحيفة (السوداني) لسنوات مشرقة، وما زلت أراسلها من موقع تواجدي، شاهداً على مرحلة صنعت فيها الصحافة السودانية وعي الرأي العام، وأثبتت قوتها المهنية وسط التحديات الكبرى. ولن أبرحها إلا في عز النصر أو نصر الشهادة. أفخر اليوم أن سجلي الصحفي ما زال حاضراً على الموقع الإلكتروني للصحيفة، وعلى الصفحات الورقية التي حرقتها الميليشيا بنيرانها واستهدافها للمؤسسات الإعلامية، شاهداً على صمود الصحافة الحرة وسط الصعاب.
أرى أن القسم السياسي فيها شكّل علامة فارقة في مسار الصحيفة وانتشارها، ليس فقط بما قدّمه من محتوى مهني رصين، بل بما أحدثه من أثر عميق وحقيقي في تشكيل وعي الجمهور. كانت تلك تجربة غنية بالخبرة والمعرفة والعلاقات الاجتماعية الطيبة، سبقتها سنوات في قسم الأخبار حيث للمزاج الورقي هيبته، وللنقطة معناها، وللدقة قيمتها التي لا تقبل المساومة، وإرشادات (بسوطة) التي لا تخطئها العين مقرونة بالتحفيز المستمر، والذي أسهم في بناء الثقة ومواصلة العمل.
في هذه المدرسة الصحفية تعلمنا أن الخبر مسؤولية، وأن التحليل موقف، وأن الكلمة حين تُكتب بوعي يمكن أن تصنع فرقاً، ويمكنها أن تفعل الأفعال. وكانت الصحافة تقوم بدور المراقب للجهاز التنفيذي، تطرح تساؤلات تستحق الإجابة، وتثير انفعال المسؤولين بما يُطرح من استفسارات، كل ذلك في سبيل تنوير الرأي العام وتقديم التوضيحات الدقيقة والموثوقة. وما زالت الصحافة الفتية قوية بذات المهنية والموثوقية.
تعلمت أن واجب الصحفي يتمثل في توخي الصدق والنزاهة في أداء المهنة، والالتزام بالمبادئ والقيم المنصوص عليها في القانون والدستور، مع مراعاة قواعد مهنية أساسية تمنع نشر معلومات متعلقة بالأمن القومي أو تحركات القوات المسلحة وخططها وعملياتها إلا من المصادر المخوّلة وبعد التأكد من أنها لا تُضر بالوطن، وتجنب التأثير أو الإضرار بسير العدالة عند نقل وقائع جلسات المحاكم أو التحقيقات التي تجريها الشرطة أو النيابة، وعدم الإثارة أو المبالغة في عرض أخبار الجريمة أو المخالفات المدنية، وعدم نشر ما يتعارض مع الأديان أو المعتقدات مع احترام القيم الدينية ومقومات الحياة العامة، والامتناع عن تلقي أي أموال من جهات أجنبية قد تؤثر على عدالة الصحفي أو نزاهته.
اليوم، ومع تصاعد ما يمكن تسميته بـ(صحافة الغفلة)، يتشكل واقع إعلامي جديد يحتاج إلى مراجعات جادة تعيد الاعتبار للمعايير المهنية والضمير الصحفي. وأين نجد مثل هؤلاء النفر الكرام الآن وقد تقطعت السبل، ونزح الناس، وصارت الغرف والبيوت هي صالات التحرير عبر الهواتف الذكية؟ وتسيد الصحافة الإلكترونية المشهد عنوة واقتدار مع المشاكل والتحديات الجسام التي تواكب التحول الرقمي.
وقد أعادتني تلك الذاكرة إلى تقارير صحفية وُلدت في سياقات معقدة، من بينها تقرير صحفي كتبته عن مستقبل الإسلاميين بعنوان: (هل يفجّر الاصطفاف العريض واقعاً جديداً؟) وهو نموذج لصحافة السؤال العميق، لا صحافة الإجابة السهلة. تلك المرحلة لم تكن مجرد زمن عمل، بل كانت زمناً لصناعة الوعي السياسي، وسيبقى أثرها شاهداً على أن الصحافة الجادة لا تموت، وإن غاب وهجها مؤقتاً فهي تاريخ يتكأ عليه في صفحات جديدة.
وفي ختام هذا المقال، أتقدم بالشكر الجزيل لكل الزملاء الصحفيين الذين تعاونوا معي منذ بدايات تدريبي، وللأساتذة والزميلات الفضليات الذين أسهموا في صقل خبرتي وصقل مهاراتي المهنية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: عمرو شعبان، عبد الباسط من قسم الأخبار، هالة حمزة، هبة علي، وجدان طلحة، مهند عبادي، عبدالحميد عوض، الأستاذ ياسر أحمد الكردي، الأستاذ ياسر عبدالله، والاداريين والعمال الطيبين. ويستمر شكري لهيئة التحرير، وللخلوق الأستاذ عطاف محمد مختار رئيس التحرير، على الكلمات الطيبة التي يحفنا بها على الدوام.
