سوريا وإسرائيل.. ترتيبات أمنية تلوح في الأفق

Loading

في لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، تقف سوريا وإسرائيل عند تقاطع قد يعيد رسم ملامح المنطقة.

فالتقارير المتواترة عن اقتراب التوصل إلى اتفاق أمني بين الطرفين، تشير إلى سابقة في علاقات دولتين عاشتا عقودا من الحرب المعلنة، وتفتح الباب أمام ترتيبات لم يكن ممكنا تصورها قبل سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024.

تجري هذه المفاوضات في توقيت حرج، إذ تشهد سوريا انتقالا سياسيا هشا بقيادة أحمد الشرع، الذي تولى السلطة بعد الإطاحة بالأسد.

نجاح هذه الخطوة، إذا تحقق، قد يقود إلى إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية وإطلاق مرحلة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي.

على المستوى المحلي، قد تساهم الترتيبات الأمنية المرتقبة في خفض التوترات في جنوب سوريا، خصوصا بعد أحداث العنف الطائفي في السويداء في يوليو الماضي، والتي دفعت إسرائيل للتدخل لحماية الطائفة الدرزية.

إقليميا، يمكن أن ينعكس الاتفاق على علاقات دمشق مع الأردن، الداعم لخارطة طريق خاصة باستقرار السويداء، وكذلك مع دول الخليج التي ترى في استقرار سوريا فرصة لتقليص النفوذ الإيراني. وعلى المستوى العالمي، فإن أي تفاهم أمني بين دمشق وتل أبيب من شأنه أن يعزز الدور الأميركي في المنطقة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني.

ويتزامن الحديث عن هذا الاتفاق مع تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع حول قرب التوصل إلى تفاهم، وزيارة وزير خارجيته أسعد الشيباني إلى واشنطن، في مؤشر على وساطة أميركية نشطة تقف خلف هذه التطورات.

ومن الواضح أن التحركات الأميركية تهدف إلى استغلال الفراغ الذي خلفه سقوط الأسد لتعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة بعد انسحاب إيران من سوريا وتراجع النفوذ الروسي.

“أي تفاهم أمني، لكي يكون قابلا للحياة، يحتاج إلى رعاية أميركية مباشرة، ليس فقط بصفة الوسيط وإنما بصفة الضامن والمشرف على التنفيذ”، يقول الكاتب والمحلل السياسي السوري مالك الحافظ.

ويضيف في حديث مع “الحرة” إن “هذا الأمر سيمنح الولايات المتحدة موقعا مقررا، فهي الطرف الذي يمكنه تحويل أيّ تفاهم من مجرد ترتيبات تكتيكية إلى إطار مؤسسي يخضع لرقابة مستمرة.

مقترح إسرائيلي

خلال زيارته الحالية لنيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الشرع إن المحادثات وصلت إلى مرحلة متقدمة، وعبر عن أمله في أن تفضي نتيجة المناقشات إلى الحفاظ على سيادة سوريا ومعالجة مخاوف إسرائيل الأمنية، محذراً من خطر حدوث اضطرابات جديدة في المنطقة في حال عدم التوصّل إلى اتفاق أمنيّ بين البلدين.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال من جهته إن الاتصالات مستمرة مع سوريا، وإنها حققت “بعض التقدم”، لكن الفجوة ما تزال كبيرة.

عُقد أول اجتماع مباشر رفيع المستوى ومعترف به علنا بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في باريس في يوليو الماضي، بوساطة من واشنطن قادها المبعوث الأميركي الخاص توم باراك.

التقى في حينها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر.

“حكومة الشرع منخرطة في عملية توازن دقيقة، فمن جهة، يتعيّن عليها الرضوخ للإسرائيليين لأنها ببساطة لا تملك القدرة على عدم فعل ذلك، ولكي تُرفع عنها العقوبات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، يتوجب عليها الحفاظ على علاقة عملية مع واشنطن، وهو ما يستلزم بحد ذاته التعاون مع الإسرائيليين”، يقول ديفيد ليش، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ترينتي الأميركية، والباحث في الشأن السوري.

وكانت جولة ثالثة من المحادثات في لندن عقدت في سبتمبر الجاري، وتحدثت تقارير عن تقديم إسرائيل مقترحا مفصلا لاتفاق أمني جديد، تضمن عناصر عدة قد تغيّر معادلة الجنوب السوري بشكل كامل.

أبرز بنود هذا المقترح، بحسب هذه التقارير، هو انسحاب الجيش السوري ومعداته الثقيلة لمشارف دمشق، بما يشكل منطقة عازلة موسعة بين الحدود مع الجولان.

الاقتراح الإسرائيلي، المستوحى من اتفاقية السلام مع مصر عام 1979، يقترح تقسيم المنطقة جنوب غرب دمشق إلى ثلاث مناطق أمنية (A، B، C) بمستويات مختلفة من التسليح والوجود العسكري السوري، مع منطقة منزوعة السلاح تمتد حتى 10 كيلومترات جنوبي دمشق، ومنع الطيران السوري من التحليق في هذه المنطقة.

في المقابل، تقترح إسرائيل انسحابا تدريجيا من الأراضي التي احتلتها مؤخرا، باستثناء قمة جبل الشيخ، التي تصر على الاحتفاظ بها لأهميتها الاستراتيجية.

سوريا، من جانبها، تطالب بالعودة إلى اتفاقية فضّ الاشتباك الموقعة مع إسرائيل في عام 1974، مع التركيز على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة بعد ديسمبر 2024، والحفاظ على سيادتها الوطنية.

وكانت إسرائيل أعلنت مع سقوط نظام الأسد أن الاتفاقية لم تعد سارية، مستغلة انهيار القوات السورية لتوسيع سيطرتها على المنطقة العازلة وجبل الشيخ، وأجزاء من القنيطرة.

“رؤية الحكومة السورية واضحة، هي لا تريد أن يشار إلى أنها أضاعت بعض الأراضي بعد سقوط النظام السوري”، يقول مدير مركز تقدم للحوار وبناء السلام عبدالله الغضوي.

ويضيف الغضوي لـ”الحرة”: “إن كانت إسرائيل تريد فعلا بناء سلام يجب أن تعود إلى ما قبل 8 ديسمبر، ومن ثم يبدأ الحديث عن عملية سلام وعن اتفاق أمني، يمكن أن يتطوّر إلى سلام إقليمي شامل في الشرق الأوسط”.

عقبة السويداء

المعادلة لا تقتصر على دمشق والجولان فقط، فما يحدث في السويداء ليس منعزلا، بل يمكن اعتباره حجر الزاوية في أيّ ترتيبات أمنية محتملة.

في 16 سبتمبر، صدر إعلان مشترك، سوري – أردني – أميركي، عن “خارطة طريق” لاستعادة الأمن والاستقرار في السويداء.

يُعتبر هذا الاتفاق، الذي وقّع في دمشق بحضور وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، والمبعوث الأميركي الخاص لسوريا توم باراك، خطوة حاسمة نحو دمج المحافظة في الدولة السورية المركزية، مع التركيز على إعادة بناء الثقة بين الحكومة المركزية والمجتمع المحلي الدرزي.

جاء الاتفاق في أعقاب موجة عنف طائفي في يوليو أودت بحياة أكثر من 250 من أبناء الطائفة الدرزية.

وعلى وقع الاشتباكات الطائفية في السويداء، شنّت إسرائيل غارات جوية، ما أخرج المحادثات الأمنية بين إسرائيل وسوريا عن مسارها بعد أن كانت قريبة من التوصل لاتفاق في ذلك الحين.

وقد جرى التوصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت بوساطة أميركية وتركية وعربية في 19 يوليو، مع نشر قوات أمنية سورية في المنطقة.

ومع ذلك، استمرت التوترات، ما دفع الولايات المتحدة والأردن إلى التدخّل المباشر.

الأردن، الذي يرى في السويداء “حاجزاً أمنيّاً” عند حدوده الشمالية ضد تهريب المخدرات والأسلحة، لعب دوراً رئيساً في الوساطة، بينما سعت الولايات المتحدة من خلال الوساطة إلى تعزيز نفوذها في سوريا بعد سقوط نظام الأسد. وبذلك، يكون ملف السويداء قد انتقل من كونه أزمة داخلية إلى قضية إقليمية.

“النتيجة المتوقعة لأيّ اتفاق مع إسرائيل يعني أن جنوب سوريا أصبح جزءا من معادلة أمنية أكبر تُدار دوليا أكثر مما تُدار محلّيا”، يقول الحافظ، ويعتبر أن “هذه الخطوة ليست معزولة عن السياق الإقليمي الأوسع، فإسرائيل تسعى منذ سنوات إلى دفع حدود التوتر بعيدا عن جبهتها الشمالية، فيما تبدو الولايات المتحدة مهتمة بترسيخ حدود أمنية جديدة في المنطقة كجزء من ترتيبات إقليمية تشمل لبنان بشكل رئيسي والأردن بدرجة أقل”، يشير الحافظ.

من هنا يمكن القول إن المفاوضات الأمنية بين إسرائيل وسوريا تمثل فرصة تاريخية لتقليص التوترات في منطقة الشرق الأوسط، لكنها في الوقت ذاته تواجه بعض التحديات الجدية، ومن أبرزها ملف السيادة.

يصرّ النظام السوري الحالي على أن أيّ اتفاق يجب أن يحترم سيادة سوريا ووحدة أراضيها، ويرفض أيّ ترتيبات تُلمح إلى الاعتراف بسيطرة إسرائيل على الجولان.

كذلك يواجه الشرع تحدّيات داخلية من فصائل متشددة داخل ائتلافه قد تعارض أيّ تقارب مع إسرائيل، خاصة إذا اعتُبر تنازلاً عن السيادة أو القضية الفلسطينية.

وفقا للحافظ فإن “التحدي الأكبر الذي يواجه دمشق ليس تقنيا أو عسكريا بقدر ما هو سياسي – اجتماعي يتعلق بقدرة هذه الحكومة على إدارة ملف حساس دون إشعال بؤر رفض محلي”.

كذلك فإن العلاقات بين الطرفين تفتقر إلى الثقة، حيث تُبدي إسرائيل قلقاً من خلفية الشرع كقائد سابق لـ”هيئة تحرير الشام”، بينما تتهم سوريا إسرائيل بالسعي إلى تقسيم البلاد عبر دعم الدروز والتدخلات العسكرية.

“القاعدة الأساسية التي أوصلت الشرع إلى السلطة ما تزال مكوّنة من الجهاديين السنّة الذين يمقتون إسرائيل ويعارضون بشدة أيً تسوية معها”، يقول ليش لـ”الحرة”.

ويضيف: “إن معظم البنية القيادية في إسرائيل ما تزال غير واثقة بالحكومة السورية الجديدة، إذ تنظر إلى تقاربها مع إسرائيل والغرب كخطوة تكتيكية مؤقتة، وأن الشرع وأنصاره سيعودان في مرحلة ما إلى جذورهما الجهادية، ولهذا تطالب إسرائيل بشكل من أشكال المناطق المنزوعة السلاح ومناطق الحظر الجوي”.

ومع ذلك يمكن اعتبار أن الاتفاق الأمني، فيما لو تمّ، يعتبر “خطوة أولى” نحو علاقات أكثر استقراراً بين سوريا وإسرائيل، يمكن أن تمهّد الطريق نحو تفاهمات أوسع.

“المستوى الأول هو الاتفاق الأمني ومن ثم تتبعه إجراءات أخرى.. الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت ومزيد من اختبار النوايا واختبار التطبيق والتنفيذ على أرض الواقع”، يقول الغضوي.