![]()
ترسم استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي نشرها البيت الأبيض، الجمعة، خريطة جديدة لعلاقة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط بعد سنوات من تركيز واشنطن على المنطقة وصراعاتها.
تمثل الاستراتيجية الجديدة تحولا في نهج واشنطن، إذ توجه اهتمامها بشكل أكبر نحو نصف الكرة الغربي، مع محاولة تقليل التدخل المباشر في النزاعات الشرق أوسطية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على مصالحها الأساسية في الطاقة والأمن والاستقرار الإقليمي.
توضح الوثيقة خارطة طريق جديدة لأهداف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتحدد كيفية الموازنة في المرحلة القادمة بين الحد من النفوذ الإيراني، ودعم حلفائها التقليديين، ومنع انتشار الإرهاب، مع تقليل الانخراط العسكري المباشر الذي كلفها كثيرا في العقود الماضية.
“تعكس الاستراتيجية الجديدة تراجع الولايات المتحدة عن نهجها التقليدي القائم على التدخل العسكري المباشر والاحتواء طويل الأمد في الشرق الأوسط، وبدلا من ذلك ستدار العلاقة وفق نهج ثنائي وحسب كل حالة على حدة،” يقول مارك شاناهان أستاذ السياسة في جامعة ساري في المملكة المتحدة.
ومع ذلك تبقى منطقة الشرق الأوسط مهمة بالنسبة للولايات المتحدة بغض النظر عما تطرحه الوثيقة، وفق رؤية توم واريك، الزميل الأقدم في المجلس الأطلسي.
“الشرق الأوسط مهم جدا وليس بالإمكان تجاهله، من الناحية العملية اعتقد أن أي رئيس أميركي سيعطيه الكثير من الاهتمام، بغض النظر عما يرغب فيه مستشاروه الاستراتيجيون،” يقول.
وجاء في الوثيقة أن السياسة الخارجية الأميركية أعطت، لمدة نصف قرن على الأقل، الأولوية للشرق الأوسط فوق جميع المناطق الأخرى “لأسباب واضحة”، منها أن الشرق الأوسط كان لعقود من الزمن أهم مورد للطاقة في العالم، وكان مسرحا رئيسيا للمنافسة بين القوى العظمى، وكان مليئا بالصراعات التي هددت بالانتشار إلى العالم الأوسع “وحتى إلى شواطئنا”، واليوم، لم يعد اثنان من هذه الديناميكيات قائمين على الأقل فقد تنوعت إمدادات الطاقة بشكل كبير، وأصبحت الولايات المتحدة مرة أخرى مصدراً صافياً للطاقة.
السبب الثاني، وفق الوثيقة، أن “المنافسة بين القوى العظمى فسحت الطريق أمام التنافس فيما بينها، والذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بالموقع الأكثر حسداً، مدعوماً من خلال إعادة تنشيط الرئيس ترامب الناجحة لتحالفاتنا في الخليج، ومع شركاء عرب آخرين، ومع إسرائيل”.
تطرقت الاستراتيجية الجديدة إلى “إضعاف إيران، القوة الرئيسية المزعزعة للاستقرار في المنطقة،” بعد حرب الـ12 يوما مع إسرائيل وما تلاها من ضربات أميركية استهدفت منشآت نووية إيرانية.
كذلك أشارت لحصول “تقدم نحو سلام أكثر ديمومة” في الصراع الإسرائيلي الفسطينيي بعد اتفاق وقف اطلاق النار الذي رعاه ترامب بين إسرائيل وحركة حماس في غزة.
وفي ما يتعلق بسوريا قالت الاستراتيجية إن هذا البلد لا يزال يمثل “مشكلة محتملة”، ولكن بدعم أميركي وعربي وإسرائيلي وتركي قد يستقر ويستعيد مكانته الصحيحة كلاعب إيجابي وجزء لا يتجزأ من المنطقة.
“الرئيس ترامب بالتأكيد يركز على التهديد طويل الأمد من إيران، ورأينا ذلك بوضوح عندما استخدم القوة العسكرية ضدها في يونيو الماضي، وأعتقد أنه مدرك تماما أنه قد يحتاج إلى القيام بذلك مرة أخرى إذا لم توافق إيران على التفاوض لإنهاء برنامجها النووي” يقول واريك لـ”الحرة”.
ويشير واريك إلى أن “كيفية التعامل مع إيران لا تعتمد حقًا على الاستراتيجية بقدر ما تعتمد على سلسلة من القرارات الفردية التي سيضطر الرئيس ترامب إلى اتخاذها بعد استشارت قادة آخرين في المنطقة، مثل إسرائيل والسعودية والامارات وقطر، لأن هذه القرارات ستحدد ما سيتم فعله لتقييد النفوذ الإيراني فعليًا”.
ترى دانيا عرايسي، الزميلة في معهد “نيو لاينز”، أن واشنطن وعلى الرغم من مع تراجع حضورها الميداني، ما زالت تمتلك نفوذًا واسعًا في الشرق الأوسط بفضل شبكة شركائها وحلفائها الذين يسيطرون عمليًا على التوازنات الإقليمية.
وتشير إلى أن هذا النفوذ يبدو واضحا في ملفات مثل لبنان، حيث تحتفظ الولايات المتحدة باهتمام سياسي طويل الأمد، وتدفع اليوم باتجاه محادثات بين لبنان وإسرائيل في سياق الحد من تأثير إيران وحزب الله، إضافة إلى محاولات توسيع اتفاقات أبراهام لتشمل دولًا جديدة.
وفي الملف السوري، تقول عرايسي إن واشنطن تعمل على بناء قنوات مع الرئيس أحمد الشرع، وتشجع مباحثات أولية بين دمشق وتل أبيب، معتبرة أن خصوم الولايات المتحدة التقليديين، كحماس وحزب الله وإيران، أصبحوا أضعف مما كانوا عليه، وهو ما يخفف الحاجة إلى تدخل مباشر.
وبحسب تحليلها، تعتمد الإدارة الأميركية حاليا مقاربة تقوم على إدارة المصالح عبر الشركاء الإقليميين، مثل السعودية ودول الخليج ولبنان، بدل التدخل العسكري أو الميداني. وتصف هذا النهج بأنه “ذكي”، لأنه يركز على الاستقرار والمكاسب الاقتصادية.
تراجع في الأولويات
في مجال الطاقة، قالت الاستراتيجية إن السبب التاريخي لتركيز الولايات على الشرق الأوسط سوف يتراجع بعد إلغاء إدارة ترامب للسياسات المقيدة أو تخفيفها وتسارع إنتاج الطاقة الأميركية، “وبدلاً من ذلك، ستصبح المنطقة بشكل متزايد مصدراً ووجهة للاستثمار الدولي، وفي صناعات تتجاوز بكثير النفط والغاز، بما في ذلك الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع”.
كذلك تحدثت الاستراتيجية عن التزام “شركاء الشرق الأوسط بمكافحة التطرف، وهو اتجاه ينبغي أن تستمر السياسة الأميركية في تشجيعه”، مشددة أن “القيام بذلك سيتطلب التخلي عن تجربة الولايات المتحدة الخاطئة المتمثلة في توبيخ هذه الدول، وخاصة الأنظمة الملكية الخليجية، لحملها على التخلي عن تقاليدها وأشكالها التاريخية للحكم”. ودعت في السياق إلى تشجيع الإصلاح عندما وحيثما يظهر عضوياً، دون محاولة فرضه من الخارج.
الاستراتيجية حددت كذلك أهدافًا رئيسية: منع سيطرة خصوم الولايات المتحدة على إمدادات الطاقة الخليجية والممرات البحرية، “وألا تكون المنطقة حاضنة أو مصدراً للإرهاب ضد المصالح الأميركية وأن تظل إسرائيل آمنة. ويمكننا ويجب علينا معالجة هذا التهديد أيديولوجياً وعسكرياً”.
يشير شاناهان إلى أن ترامب يميل إلى تجنّب الحروب، لكن ذلك لا يعني أن واشنطن ستتراجع فعلياً عن التزاماتها الأمنية في المنطقة، فهناك عشرات آلاف الجنود الأميركيين المنتشرين في الشرق الأوسط، ومن غير المتوقع حدوث انسحاب كبير.
ويرى أن ترامب سيواصل التعامل مع دول الخليج، خصوصاً السعودية، بما يخدم مبدأ “أميركا أولاً”، سواء عبر صفقات اقتصادية أو تعاون أمني.
ويعتقد أيضاً أن الإدارة الأميركية لن تتجه نحو تصعيد كبير مع إيران لأنها تدرك محدودية قدرتها على تحقيق تغييرات داخلية هناك. كما أن اهتمام البيت الأبيض بإعادة إعمار سوريا يبدو ضعيفاً، خاصة مع غياب الفرص الاقتصادية التي قد تشجع الإدارة على الانخراط.
ويستبعد أن تشهد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تحولاً جذرياً، لكنها قد تتراجع في أهميتها النسبية بسبب التركيز المتزايد على ملفات أخرى مثل فنزويلا، “وهذا قد يدفع إسرائيل ودول الخليج إلى تولي مسؤولية أكبر في مواجهة أي تهديدات إيرانية، مع استمرار الدعم العسكري الأميركي لها، خصوصاً لإسرائيل”.