![]()
لا تحتاج “الضاحية الجنوبية لبيروت” إلى تقديم. كلماتها الثلاث كافية للي الأعناق، انتباها، في لبنان والمنطقة، وأبعد من ذلك. فالضاحية لم تعد مجرد بقعة جغرافية، بل تحوّلت على مرّ السنوات إلى رمز سياسي وماكينة اجتماعية، أمنية متكاملة، ترتبط مباشرة بنفوذ حزب الله وحضوره في المشهد اللبناني.
وبين السرديات المتضاربة وبيئة اقتصادية متناقضة تجمع بين افقر أحياء لبنان وأكثرها ازدهارا، تبقى الضاحية واحدة من أكثر المناطق التي يساء فهمها في لبنان والعالم العربي.
لم تكن “الضاحية” تحمل هذه الهوية قبل الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت عام 1975، فقد كانت تسمى “ساحل المتن الجنوبي”، منطقة زراعية ساحرة، تشتهر ببساتين الحمضيات وزهر الليمون، وتعد امتداداً هادئاً لبيروت. تضم بلدات ذات أغلبية مسيحية، إلى جانب بلدات شيعية محدودة مثل الغبيري وبرج البراجنة، لكن تحولات الحرب والنزوح والهجرة غيرت طبيعة المكان جذرياً.
يصف عباس هدلي، باحث وناشط اجتماعي، في مقابلة مع الحرة، كيف اختفت هذه الخصوصية تماماً مع نهاية الحرب، قائلاً إن المنطقة “خرجت من عباءة العيش المشترك، وتحولت إلى منطقة ذات صبغة سياسية ودينية واضحة” فالتمدد العمراني العشوائي، ثم سيطرة قوى الأمر الواقع، وعمليات شراء الأراضي، أدت إلى تغير جذري في ديمرغرافيا المنطقة. ورغم أن بلدات مثل المريجة والليلكي ما تزال “اسماً” بلدات ذات أغلبية مسيحية في لوائح الشطب، إلا أن سكانها الفعليين اليوم هو بالكامل تقريباً من الوافدين الجدد بعد الحرب.
يستعيد هدلي رواية قديمة لترسيخ هذا التحول، ينقل فيها عن الرئيس الراحل الياس الهراوي قوله إن “رائحة الزهر كانت ما تزال معلقة” في ذاكرته حول هذه القرى. اليوم يصف هدلي الضاحية بأنها فقدت تلك الروح، مضيفاً: ” تحولت من ساحل المتن الجنوبي … إلى ضاحية السيد”.
منذ التسعينيات، شكلت الضاحية مركز الثقل السياسي والأمني والاجتماعي لحزب الله، بكل مؤسساته العامة، الصحية، والخدماتية. ويجمع الباحثون على أن هذا التمركز تعزز بفعل غياب الدولة اللبنانية عن هذه المنطقة وقدرة حزب الله على ملء الفراغ عبر مؤسساته الصحية، الاجتماعية والتربوية، مما جعله مصدر الخدمات الأول.
يشير هدلي بوضوح إلى أن حزب الله عمل بشكل متواز مع الدولة لا ضمنها، قائلاً إنه مشروع “لا يرغب في الاندماج الكامل مع الدولة، بل يوازيها” ويؤسس لبنية سلطوية موازية داخل الضاحية.
ومن الأمثلة الصارخة، بحسبه، أن المراكز الصحية التابعة للدولة تدار فعلياً من قبل مؤسسات الحزب، مما يجعل المواطنين يعتبرون أن “الفضل للحزب وليس الدولة” رغم أن التمويل رسمي في الأساس.
غالباً ما تقدر أعداد سكان الضاحية بما يفوق المليون نسمة، لكن الخبير الإحصائي ومدير شركة “ستاتيستكس ليبانون” ربيع الهبر يؤكد لـ”الحرة” أن كل ذلك يدخل في خانة “الأساطير المتداولة”. بحسب أحدث تقديراته فإن عدد سكان الضاحية الجنوبية لبيروت هو 333 ألف نسمة تقريبا، والحد الأقصى الواقعي لا يتجاوز 400 ألف نسمة. يقول الهبر إنه “من المستحيل أن يكون العدد مليونا أو مليونين. بيروت الإدارية كلها تضم حوالي 400 ألف، والضاحية أقل من بيروت بحجم السكان”.
وفي حين تتوزع مناطق الضاحية بين حارة حريك، الغبيري، الشياح، المريجة، وبرج البراجنة، وغيرها، فإن الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا ومحيطهما لا يحتسبون ضمن تعداد الضاحية، رغم تأثيرهم الجغرافي والاجتماعي على أطرافها.
من حيث الهوية الطائفية، تؤكد الأرقام التي زودنا بها الهبر أن 90% من سكانها من الطائفة الشيعية، وأقل من 7% من السنة، ونسبة ضئيلة جداً من المسيحيين (3% تقريباً) ما زالوا في بعض الأحياء التقليدية.
تقول لنا غالية ضاهر، وهي مقيمة في الضاحية الجنوبية منذ 30 عاماً، ومن الطائفة السنية أنها لم تعاني على الصعيد الاجتماعي بتاتاً، بل هناك تعايش بين أبناء المنطقة من كل الطوائف، لكن الخلاف الدائم هو سياسي بامتياز، وتضيف: “إذا لم تعش في الضاحية، لن تستطيع فهمها”.
لفهم الضاحية، لابد من العودة إلى جذورها التاريخية، وهو ما يشرحه الباحث عباس هدلي: “الضاحية لم تكن منطقة شيعية في الأصل. الشيعة نزحوا إليها من الجنوب وجبل عامل والبقاع في الستينيات هربا من الاحتكاكات المسلحة مع منظمة التحرير. اختاروا الاستقرار في المناطق المسيحية لأنها كانت أكثر استقبالًا لهم من المناطق الأخرى.”
ومع الزمن، ومع الحرب الأهلية والتوسع العمراني العشوائي، تحولت الضاحية إلى “عاصمة الشيعة” في لبنان، وساحة مواجهة بين مختلف القوى: الجيش، السوريون، الإسرائيليون، والفصائل الفلسطينية.
ترتبط عادة كلمة “الضاحية” بمناطق الفقر وأحزمة البؤس، لكن في لبنان اختصرت التسمية لتشير تحديدا إلى ضاحية بيروت الجنوبية، رغم وجود ضواح أخرى ترتبط بالعاصمة من الشرق والشمال. ومع ذلك تعرف الضاحية الجنوبية بأنها منطقة المحرومين والمستضعفين، واقع لم يعد حقيقيا في العقد الأخير.
تنقل لنا غالية الصورة وتعكس وجها إنسانيا عن الحال في الضاحية “الناس تعمل هنا من الصباح حتى المساء لتأمين لقمة العيش، وهناك شوارع من دون كهرباء، لكن هناك شوارع أخرى مكتظة بالمحلات والمطاعم. الضاحية ليست لونا واحدا، هنا يوجد كل شيء”
تتميز الضاحية بتناقص اقتصادي صارخ، فهي ليست منطقة فقيرة بالكامل كما تقدم غالبا في الإعلام، بل هي مجموعة من الأحياء المتباينة. ففي حين تحافظ أجزاء من حارة حريك والحدث، السان تيريز، على مستوى اقتصادي جيد، تشهد مناطق أخرى مثل حي السلم وصحراء الشويفات اكتظاظا شديدا، وفقرا بنيويا ونسبة عالية من النازحين السوريين والفلسطنيين.
برغم الصورة النمطية عن الازدهار داخل بعض أحيائها، تبقى بعض الأحياء في الضاحية من اكثر المناطق في لبنان فقراً بحسب بيانات “ستايستكس لبنان”، وتصل نسبة الفقر إلى 75% من سكان الضاحية ويتركز خصوصاً في جنوبها ومحيط المخيمات الفلسطينية. لكن في المقابل هناك طبقة متوسطة واسعة، وطبقة مزدهرة في الأحياء الغربية الراقية.
ولكن من أين جاء الثراء الذي يظهر في أبنية فاخرة وتجارة نشطة ومراكز التسوق (مولات)؟
يجيب الهبر، بأن “المصدر الأساسي هو الاغتراب الشيعي. شيعة أفريقيا، كندا، أميركا وأستراليا. هؤلاء صنعوا برجوازية شيعية حقيقية، يستثمرون أموالهم في لبنان. كثيرون يملكون شقة في الخارج، وشقة فاخرة في الضاحية أو الجنوب.” ويلفت إلى أن أسعار بعض الشقق، تصل إلى نصف مليون دولار، بل تتجاوز مليون دولار في بعض الأحياء الراقية. أما تأثير حزب الله على هذا الازدهار، فيراه الهبر محدودا: “ليس هناك ارتباط بين رفاهية أبناء الطائفة الشيعية وحزب الله. قيادات الحزب تعيش تواضعا ظاهرا، والمال الآتي من الاغتراب هو المحرك الأكبر.”
أما إعادة إعمار 2006، فيعتقد أنها لم تخلق ازدهارا جديدا، بل أعادت الأبنية إلى ما كانت عليه مع استغلال بعض الثغرات لزيادة عدد الطوابق.
تعتبر إعادة إعمار الضاحية بعد حرب تموز 2006، نقطة مفصلية في علاقة السكان بالحزب. إذ احتركت شركة “وعد”، التابعة لمؤسسة جهاد البناء، عملية إعادة الإعمار بالكامل. ويؤكد هدلي أن الدولة “ألزمت” حزب الله الإعمار بشكل مباشر، وحتى أموال الدول المانحة، بما فيها دول عربية، حولت إلى “وعد” لتنفيذ أعمال البناء، ما كرس الحزب بديلاً فعلياً عن الدولة في عيون السكان.
منذ الحرب الأخيرة، مع إسرائيل، عام 2023، وما رافقها من عمليات قصف واغتيالات في قلب الضاحية، أدت إلى تحولات جديدة وخطيرة في المزاج الشعبي. يشرح هدلي لنا بأن مؤسسة جهاد البناء قامت مجددا بدور الدولة، عبر معاينة الأضرار، تنظيم ملفات المسح بينما غابت أجهزة الدولة بالكامل عن هذه العملية ، ويشير هدلي إلى أن الدولة لم ترسل حتى الجيش اللبناني، كما كان يحصل سابقاً، للمسح الأولي للأضرار. “النتيجة كانت حالة قلق جماعي وارتفاع واضح في النزوح الداخلي نحو مناطق أكثر أمانا، أو استئجار منزل ثان خارج الضاحية كخطة طوارئ”، ويضيف هدلي إن السكان يشعرون بأنهم “متروكون لمصيرهم” وأن الدولة لم تقم بأي دور لطمأنتهم أو حماية المدنيين من تبعات المواجهة العسكرية.
وفق الهبر، فإن الحرب الإسرائيلية الأخيرة شكلت نقطة تحول، فقد نزح حوالي 250 ألف شخص من الضاحية، وبقي حوالي 120 إلى 127 الفاً فقط في الداخل، ويؤكد أن الضاحية شهدت ركوداً عقارياً وانخفاضاً في أسعار الشقق، “فالشقة التي كان سعرها 500 ألف دولار، أصبحت اليوم 300 ألف أو حتى 250 ألفاً”، ويضيف الهبر أنه وفي المقابل ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل هائل في المتن وعاليه وبعبدا. “فضل السكان البحث عن بدائل خارج الضاحية أو تجهيز سكن احتياطي”.
ترفض غالية ترك منزلها، أو استئجار منزل آخر بعيداً عن الضاحية، رغم أنها تحكي لنا أنها كانت تبعد أمتاراً قليلة عن مكان حادثة الاغتيال الأخيرة لقيادي حزب الله هيثم طبطبائي “كان صوت الانفجار مرعب، بقينا أنا وعائلتي في حالة جمود طويلة، ومع كل الخوف الذي عشناه لا نفكر بتاتاً بترك المنطقة”، وتضيف غالية “الضاحية مش ثكنة. هناك خوف نعم … لكن هناك حياة”.
ومع أن الصورة الأشهر عن الضاحية أنها منطقة أمنية مغلقة، لكن الهبر يقدم قراءة مزدوجة : “هناك مناطق محاطة بحزام أمني بسبب مؤسسات حزب الله. لكن الضاحية ايضاً منطقة فيها حرية كاملة، وأسواق ضخمة، ومطاعم وتجارة واسعة”.
ويحسم الهبر أحد أهم أسئلة اللحظة: هل تغيرت شعبية حزب الله بعد خسارته الفادحة؟ فيرد : “بحسب استطلاعاتنا، لا تغيير عند الجمهور الشيعي، اللوم موجود … لكن الولاء ثابت، ما تغير هو شعور ودعم باقي الطوائف اللبنانية وجمهور باقي الأحزاب، حتى منها الموالي لحزب الله أو المتحالف معه في السابق. خسر حزب الله بالكامل جمهور السنة والجمهور المسيحي والدرزي بمختلف الأطياف والأحزاب، ولم يبقى معه إلا أبناء الطائفة الشيعية المقتنعين بفكر ونهج حزب الله”.