![]()
منذ عشرين عاما، لم يتحدّث السُنّة في العراق سياسيا بصوت واحد. تتبدّل الوجوه والتحالفات في كل دورة انتخابية، لكنّ الانقسام يبقى الثابت الوحيد.
ومع اقتراب انتخابات نوفمبر 2025، يبدو المشهد السياسي السني كما كان قبل عقدين: زعامات محلية متنافسة، تحالفات قصيرة الأمد، وغياب واضح لزعامة موحدة قادرة على تمثيل المكون على المستوى الوطني.
في العراق، حيث تُقسم السلطة بين المكوّنات، يحتفظ السنّة تقليديا برئاسة البرلمان ضمن “الرئاسات الثلاث”: الجمهورية للأكراد، والوزراء للشيعة، والبرلمان للسُنّة.
لكن القادة السنة، غالبا ما يقولون إن هذه “المحاصصة” لم تمنحهم ما يستحقونه من نفوذ سياسي. عموما، بعد عقدين من التحوّلات، ما زال السنة من دون مظلة سياسية جامعة، على عكس الكتلتين الشيعية والكردية اللتين تمتلكان هياكل تنظيمية أكثر تماسكا.
يقول الباحث العراقي المقيم في الولايات المتحدة هيثم الهيتي إن ما يواجهه المكوّن السني اليوم هو “أزمة تمثيل متجذّرة”.
ويضيف: “قادة السنة في أزمة هوية. لا يملكون زعامة وطنية، بل زعامات مناطقية؛ فالحلبوسي والخنجر يتنافسان في الأنبار وبغداد، والنجيفي في نينوى، ومثنى السامرائي في صلاح الدين”.
أزمة القيادة، كما يصفها، ليست فقط في تشتت الولاءات، بل في غياب رؤية مشتركة تتجاوز حدود المحافظات. والنتيجة أن الصوت السني ظل عرضة للتفكك والتوظيف من طرف القوى الأكبر داخل العملية السياسية.
منذ سقوط نظام صدام حسين في 2003، تشكّلت القوى السنية من مزيج عشائري وإسلامي وقومي، وشخصيات مستقلة دخلت الانتخابات متفرقة ثم تجمعت لاحقا في تحالفات هشة.
من رحم هذا التشتّت خرجت أسماء مثل صالح المطلك وأسامة النجيفي وسليم الجبوري، قبل أن يبرز نجم محمد الحلبوسي، الذي أصبح خلال سنوات قليلة الوجه الأبرز في المشهد السياسي السني.
وُلد الحلبوسي في الرمادي عام 1981، وتولى منصب محافظ الأنبار بين 2014 و2017، ثم رئاسة البرلمان بين 2021 و2023، قبل إقالته في نوفمبر 2023 بتهم تزوير.
أسس في 2021 تحالف “تقدّم” الذي حصد 37 مقعدا، ليصبح القوة السنية الأولى، والثانية على المستوى الوطني بعد التيار الصدري.
خصوم الحلبوسي يتحدثون عن قربه من أطراف خليجية وفتح قنوات مع واشنطن، لكنه يؤكد أنه يمثل تيارا واقعيا يسعى لتثبيت موقع السُنّة في الحكم “بعد سنوات من التهميش”، يقول مدير الأبحاث في مركز البيان للدراسات والتخطيط، مصطفى السراي.
إلى جانبه، برز تحالف “عزم” الذي تأسس في 2021 أيضا برئاسة خميس الخنجر، قبل أن تنتقل قيادته لاحقا إلى مثنّى السامرائي بعد خلافات بين الرجلين. شارك “عزم” في انتخابات 2021 وحصل على 14 مقعدا، وضم شخصيات بارزة مثل أسامة النجيفي.
أما الخنجر، فأنشأ بعد انشقاقه حزبا جديدا باسم “السيادة”. خاض من خلاله انتخابات مجالس المحافظات عام 2023. لكن مسيرته لم تخلُ من الجدل؛ ففي أكتوبر 2024 أعلن استقالته من رئاسة الحزب بعد اتهامات بصلاته بحزب البعث وشموله بإجراءات هيئة المساءلة والعدالة.
ورغم ذلك، ظلّ الخنجر لاعبا مؤثرا. فحزبه استطاع جذب نواب مستقلين وتقديم نفسه كخيار بديل عن قيادة الحلبوسي، مستفيدا من تصاعد التوتر بين الطرفين.
علاقاته تمتد من الدوحة وأنقرة، يشير السراي، ما يمنحه هامش مناورة إقليميا واسعا، لكن خصومه يثيرون شكوكا بشأن توجهاته.
أما التحالف الثالث، “حسم”، فيقوده وزير الدفاع الحالي ثابت العيساوي، ويضم جماعة “الحل” بزعامة جمال الكربولي، و”الكتلة العراقية الحرة” بزعامة قتيبة الجبوري، وحزب “الوفاء” بقيادة قاسم الفهداوي، إلى جانب شخصيات مثل وزير المالية الأسبق رافع العيساوي.
تحالفات متعددة في مشهد واحد، يتغير فيه اللاعبون لكن تبقى القاعدة واحدة: لا زعامة موحدة، بل زعامات تتنافس على مساحات النفوذ المحلي.

معركة المقاعد وفرص محدودة للتأثير
تشير التقديرات إلى أن السُنّة يشغلون نحو خُمس مقاعد البرلمان (قرابة 70 من أصل 329). ومع اقتراب الانتخابات المقبلة، يتركز الاهتمام على كيفية توزيع هذه الحصة بين التحالفات المتنافسة.
بعد فوز الصدريين في انتخابات 2021 بأكثر من 70 مقعدا، انسحبوا من البرلمان بسبب خلافات مع أطراف شيعية أخرى، ومع إعلان مقتدى الصدر استمرار مقاطعة تياره للانتخابات المقبلة، يُتوقّع أن تُعاد صياغة التوازنات داخل البرلمان، وأن تستفيد القوى السنية من الفراغ النسبي الذي سيتركه انسحاب الصدريين، خصوصا في المناطق المختلطة طائفيا.
لكن السراي، يرى أن التأثير سيكون محدودا، موضحا أن “الترجيحات تشير إلى أن السُنّة قد يحصلون على ما بين خمسة إلى عشرة مقاعد إضافية، وهذا لن يكون له تأثير كبير”.
ويضيف السراي أن المنافسة الحقيقية ستتركز بين ثلاث قوى رئيسية: تقدّم، والسيادة، وعزم، بينما “ستظل الكتل الصغيرة والشخصيات المحلية محصورة في محافظاتها ولن تشكّل رقما صعبا في المعادلة”.
ورغم محدودية التغيير المتوقع، فإن الشكل الذي ستخرج به هذه الكتل من الانتخابات سيعيد رسم ميزان القوى داخل “البيت السني”، ويفتح الباب أمام تحالفات جديدة على مستوى بغداد.

من الهوية إلى الجغرافيا
خلافا لنمط التصويت لدى الشيعة والأكراد اللذين يميلان إلى الاستقرار النسبي بفضل الزعامات التقليدية، يصعب التنبؤ بمآلات المشهد السني بعد كل انتخابات، إذ تتبدّل التحالفات وتتغيّر موازين القوى مع كل دورة انتخابية.
لكن الأكاديمي العراقي عقيل عباس يرى أن هذا ليس ضعفا بل تطورا في سلوك الناخب السني، إذ يصوت اليوم “على أسس مناطقية أكثر منها مذهبية، ويدعم شخصيات محلية ومطالب مرتبطة بواقعه الميداني”.
ويشرح عباس أن طبيعة المدن السنية المختلفة تلعب دورا أساسيا في تشكيل أولويات الناخبين. ففي الموصل، يهيمن هاجس الإعمار وتعويض سنوات الدمار التي خلّفها تنظيم داعش.
في الرمادي، تبرز قضية المغيّبين بوصفها جرحا مفتوحا يحرك الوجدان الشعبي، أما في صلاح الدين ذات الطابع العشائري المحافظ، فيظلّ العامل القبلي حاضرا في تشكيل التحالفات وخيارات التصويت.
هذه التباينات، كما يصفها عباس، “ظاهرة صحية تمنح كل محافظة حرية التعبير عن خصوصيتها ومصالحها، بدل أن تُختزل في تمثيل مكوناتي ضيق”.
لكن عباس يحذر من أن التصويت القائم على الهويات المذهبية في العراق عموما “عمّق الانقسام وأضعف الطبقة السياسية الوطنية، لأنه يجعل البرامج الانتخابية تدور حول الهوية لا حول الخدمات أو التنمية”.
ورغم هشاشة التكتلات السنية، يرى عباس أن الفشل في توحيدها قد يكون إيجابيا في جانبٍ ما، لأنه “يعني أن المجتمع السني يعبّر عن نفسه بطرق أكثر واقعية وتنوعا، بعيدا عن فكرة الزعامة الواحدة”.
البراغماتية الحذرة
إقليميا، تنتهج القوى السنية سياسة البراغماتية الحذرة. فهي تحاول النأي بنفسها عن المحور الإيراني دون قطع خطوط التواصل معه، وفي الوقت نفسه تسعى لترسيخ علاقات قوية مع دول الخليج والولايات المتحدة كعامل توازن.
يقول الباحث في شؤون السياسة الخارجية العراقية، مهند الجنابي، إن بعض القوى “تتواصل مع أطراف في محور طهران لدواعٍ براغماتية لا أيديولوجية”، في إشارة إلى رغبتها بالحفاظ على مقاعدها داخل الحكومة.
لكن السنة، يضيف، “بكل كتلهم السياسية، ورغم اختلافاتهم، يجمعون على رفض تحويل الدولة العراقية إلى جزء من المحور الإيراني أو إلى دولة تقودها فصائل مقاومة”.
في المقابل، تربط المكوّن السني علاقات وثيقة مع السعودية والإمارات وقطر، يراها الجنابي “عامل توازن مهما في مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد داخل العراق”.
وفي ما في ما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، يقول الجنابي إن السُنّة “يعتبرون أن الدعوات لإنهاء الوجود الأميركي هي توجهات إيرانية لا تعبّر عن مصالحهم ولا عن المزاج العام في مناطقهم”.
ويضيف “هناك رفض تام، شعبي وسياسي، لفكرة قطع العلاقة العسكرية مع التحالف الدولي. فهم يرون أن العراق ما زال بحاجة إلى الوجود الأميركي، خصوصا في ما يتعلق بالحرب على الإرهاب”.
اختبار مزدوج
بين زعامات تتنافس على النفوذ، وناخبين يتحركون وفق أولويات محلية، تدخل القوى السنية انتخابات نوفمبر وهي أمام اختبار مزدوج: سياسيّ لقيادات تسعى إلى تثبيت حضورها في معادلة السلطة، واجتماعيّ لمجتمعٍ يحاول الانتقال من التمثيل الطائفي إلى المحلي.
وفي بلد يقوم نظامه على توازنٍ دقيق بين المكونات، قد لا تُبدل هذه الانتخابات قواعد اللعبة، لكنها قد تعيد رسم ملامح “البيت السني” وحدود نفوذه داخل الدولة.