الذكاء الاصطناعي لا يعبأ بالانتخابات

Loading

الذكاء الاصطناعي سيسرق قدرتك على الحكم قبل أن يسرق وظيفتك.

الانتخابات المقبلة في العالم لن تُحسم في صناديق الاقتراع، بل في الحرب الخفية على استقطاب انتباهك. عندما تحدثت مع جوناثان كاتز، الباحث في دراسات الحوكمة في معهد بروكينغز بواشنطن، والمتخصص في الفساد وتراجع الديمقراطية، قال لي جملة أوقفتني تمامًا: “الذكاء الاصطناعي سيكون أكثر الأدوات سمّية التي استُخدمت يومًا ضد الديمقراطية.”  لم يكن يبالغ. ما يقترب ليس موجة جديدة من الأخبار الكاذبة أو التدخلات الأجنبية، بل انهيار الثقة نفسها.

عام 2016، كان الخطر الأكبر يأتي من الحملات المضللة والمحتوى الساخر. في عام 2020، تمثل التهديد الأساسي في شبكات التضليل ومقاطع الفيديو المزيّفة لسياسيين يقولون ما لم يقولوه. لكن عام 2025 مختلف. الأكاذيب القادمة لن تأتي من أشخاص يحاولون خداعنا، بل من آلات تكنولوجية وخوارزميات قادرة على تقليد أي شخص، في أي مكان، وبشكل فوري.

لقد رأينا لمحة من هذا المستقبل. في العام الماضي، هزّ مقطع فيديو مزيّف الانتخابات الرئاسية في إيرلندا، ظهرت فيه حينها المرشحة كاثرين كونولي وهي تعلن انسحابها من السباق. خلال ساعات، انتشر المقطع على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوقفت غرف الأخبار للتحقق منه، لكن ذلك التوقف نفسه شكّل السردية الإعلامية. لم تنسحب كونولي فعلاً، لكن الضرر وقع قبل أن تلحق الحقيقة بعامل السرعة. الديمقراطية لا تقوم على الكفاءة أو حتى الشفافية، بل على الإيمان بأن الحقيقة موجودة ويمكن الاتفاق عليها. وعندما ينهار هذا الإيمان، تصبح الحقائق قابلة للتفاوض، وتتحول القوة إلى مبررٍ لنفسها. كما قال لي عالم السياسة والمفكر فرانسيس فوكوياما: “الديمقراطية تعتمد على الشرعية، ليس فقط من خلال الانتخابات، بل من خلال الإيمان بالنظام نفسه.”

الذكاء الاصطناعي يقوّض هذا الإيمان، لأنه يصنّع الشك. فهو لا يسرّع نشر الأكاذيب فحسب، بل يبني عوالم كاملة من الوهم، مستخدمًا وجوهنا ومخاوفنا مادةً أولية. ومع ذلك، لا تزال معظم الحكومات تخوض المعركة الخطأ. فهي لا ترة تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كقضية تنظيمية تتعلق بحقوق النشر والخصوصية والأمن القومي. هذه قضايا مهمة، نعم، لكنها ليست جوهر المشكلة. ما هو على المحك ليس الملكية الفكرية، بل الحدّ الفاصل بين الحقيقة والوهم. وهذا الحد بدأ يتلاشى بالفعل. كما كتب بن بوكانان وأندرو إمبري في كتابهما “النار الجديدة: الحرب والسلام والديمقراطية في عصر الذكاء الاصطناعي”، المعركة الحقيقية ليست بشأن البيانات أو قوة الحوسبة، بل بشأن السيطرة على الإدراك نفسه. الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف القوة في الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية على حد سواء. وهذا التحذير انتقل الآن من النظرية إلى الواقع.

قال لي كينيث بولاك، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية ونائب رئيس معهد الشرق الأوسط للسياسات: “تعلّم المستبدون أن السيطرة على المعلومات أكثر استدامة من السيطرة على الأرض.” وفي زمن يمكن فيه تسليح الإدراك، تصبح الشرعية نفسها ساحة معركة. وأضاف بولاك: “نراها في روسيا، في الصين، وفي أجزاء من الشرق الأوسط. القادة الذين يتقنون سرد القصة لا يحتاجون إلى إتقان الحقيقة”. الذكاء الاصطناعي يجعل هذا الدرس قابلًا للتطبيق على نطاق غير مسبوق. ما بجب أن يقلقنا ليس الفوضى، بل الإرهاق، تلك اللامبالاة الجماعية التي تتبع فيضًا من الأكاذيب والضوضاء. كاتز قالها ببساطة: “موت الديمقراطية لن يبدو كأنه انقلاب… بل كتنهيدة جماعية.”

الناس لا يرفضون الديمقراطية لأنهم يكرهونها، بل لأن الحقيقة باتت صعبة المنال. وفي هذا المناخ، يزدهر التلاعب. الأسوأ سيأتي ليس حين يغضب المواطنون، بل حين يفقدون الإحساس أصلًا. لقد نجت الديمقراطيات من الطغاة، ومن التضليل، ومن الحروب. ويمكنها أن تنجو من الذكاء الاصطناعي أيضًا، لكن فقط إذا أدرك المواطنون طبيعة التهديد: تكنولوجي في شكله، أخلاقي في جوهره.

على الصحفيين أن يطوروا أدوات التحقق بالسرعة نفسها التي يبتكر فيها المضللون أساليب الخداع. وعلى الحكومات أن تتعامل مع نزاهة المعلومات كجزء من الدفاع الوطني. فالمعهد الديمقراطي الوطني والمنتدى الاقتصادي العالمي يؤكدان أن مقاومة التضليل يجب أن تُعتبر ركيزة من ركائز الصمود الوطني، تمامًا كالدفاع والأمن. وقد أدركت الدول الإسكندنافية ذلك مبكرًا، ونجحت في تحويله إلى سياسات عملية.

أما المواطنون، فمسؤوليتهم أن يستعيدوا الانضباط الذي تقوم عليه الديمقراطية: أن يشككوا، أن يتحققوا، وأن يقاوموا الإغراء بتصديق ما يريدون أن يكون صحيحا.

أنه في حال فقدنا القدرة على التمييز بين الحقيقي والمزيف، وحين تضيع الحدود بين الحقيقي والمصطنع، لا ينتصر الصادقون، بل من يتقن صناعة الوهم. الانتخابات المقبلة لن تُختطف في الخفاء، بل أمام أعيننا، خوارزمية بعد أخرى، حتى تختفي الحقيقة نفسها.