![]()
خطة السلام لا تواكب الواقع على الأرض
عزالدين شكري فشير روائي وأكاديمي ودبلوماسي، يدرس بدارتموث كولدج، “مؤلف “على فين يامصر”.
تقوم خطة السلام الخاصة بغزّة على سلسلة من حلقات مترابطة تبدو بسيطة في ظاهرها: قوة عربية ودولية تنتشر في القطاع، حماس تتخلى عن سلاحها، إسرائيل تنسحب، تنشأ سلطة حاكمة جديدة، وتبدأ إعادة الإعمار.
لكنّ كل حلقة في هذه السلسلة هشة، وتعتمد على الأخرى. وأهم حلقتين – نزع سلاح حماس وانسحاب إسرائيل – تبدوان اليوم غير قابلتين للتحقق. وبدونهما لن تصمد السلسلة بأكملها.
نزع السلاح: الخطوة المفقودة
إسرائيل لا تستطيع أن تُجبر حماس على نزع سلاحها.عام كامل من الحرب كشف حدود القوة العسكرية في مواجهة حركة سرّية متجذّرة اجتماعيًّا وذات شبكات قيادة متكيّفة. حتى التقديرات الإسرائيلية نفسها تقرّ بأن آلاف المقاتلين ما زالوا ناشطين، وأن الاشتباكات مستمرة على خط وقف النار الجديد داخل القطاع.
ولن تنجح قوة استقرار دولية فيما فشلت فيه إسرائيل. الملك عبد الله الثاني كان صريحاً بقوله إن مهمة “فرض السلام” ليست مطروحة: “لا أحد يريد لمسها”. عمّان استبعدت المشاركة في أي قوة من هذا النوع، ومصر تتبنى الموقف ذاته. مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن يتحدث عن صلاحيات تنفيذية، لكن الدول العربية ترفض هذا التفويض، وترى دورها محصوراً في دعم وبناء المؤسسات الأمنية الفلسطينية، لا في محاربة حماس. الفجوة بين الموقفين جوهرية: من سيواجه مقاتلي حماس؟ ومن ستكون له السلطة الأمنية العليا في غزّة؟ وكما قال وزير الخارجية التركي بعد اجتماع إقليمي مؤخرا: “الفلسطينيون يجب أن يحكموا الفلسطينيين، والفلسطينيون يجب أن يضمنوا أمنهم بأنفسهم.”
أما الرأي العام الفلسطيني فموقفه واضح أيضاً. فبحسب المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، أغلبية واسعة ترفض أي قوة عربية مسلّحة لنزع سلاح حماس، بل إن معظمهم يرفضون فكرة نزع السلاح أصلاً.
أي إنّ السكان المتوقع أن يعيشوا تحت هذه الخطة لن يمنحوها الشرعية.
وحماس بطبيعة الحال ليست لديها أي دافع لتسليم سلاحها. هجماتها الأخيرة وخطابها السياسي يؤكدان أنها تنوي البقاء لاعباً رئيسياً في مرحلة ما بعد الحرب. الطريق الوحيد الممكن لنزع السلاح هو التفاوض، ربما بضغوط من قطر وتركيا، وهو سيناريو يمكن تخيّله نظرياً لكنه غير مرجّح عملياً.
لا نزع سلاح… إذاً لا انسحاب
من دون نزع السلاح لن تكون هناك حوكمة فعالة، ولا إعادة إعمار، ولا انسحاب إسرائيلي. الأمر لا علاقة له بالعدالة ولا هو نداء أخلاقي، بل منطق سياسي بسيط: إسرائيل لن تنسحب ولن تسمح بالإعمار إذا احتفظت حماس بسلاحها، وحماس لن تقف مكتوفة الأيدي إذا لم تنسحب إسرائيل. وهكذا تتعطل الحوكمة والإعمار معاً.
والمؤشرات على هذا الاتجاه تتزايد: بينما تدور المناقشات حول نزع السلاح في حلقة مفرغة، تُرسّخ إسرائيل سيطرتها على أكثر من نصف مساحة القطاع. نقاط تمركز جديدة وسواتر ترابية وطائرات مسيّرة ترسم حدوداً محصّنة على ما يُعرف بـ “الخط الأصفر”، الفاصل بين المنطقة التي ما زالت تحت السيطرة الإسرائيلية وبقية القطاع الخاضع لحماس. ومنذ وقف إطلاق النار، أدت نيران حماس والردود الإسرائيلية إلى مقتل جنود إسرائيليين وعشرات المدنيين الفلسطينيين. وإسرائيل تعلن صراحة أنها تحتفظ بحقها في التدخل العسكري في أي مكان داخل غزّة – تماماً كما تفعل في جنوب لبنان – مما يعني أن دوامة الهجمات والردود ستستمر.
سراب “غزّة الجديدة”
التخلي عن فكرة نزع السلاح أعاد إحياء الحديث عن بناء “غزّة جديدة”. فجاريد كوشنر طرح أخيراً أنه إذا رفضت حماس الخطة، فيجب أن تقتصر إعادة الإعمار على المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية – أي نحو 53 % من مساحة القطاع داخل الخط الأصفر. الفكرة هي إنشاء مساكن وبنى تحتية للمياه والكهرباء بحيث “يصوّت الغزّيون بأقدامهم” ويغادروا مناطق حماس المدمّرة نحو مناطق تؤمّنها القوات الإسرائيلية.
وتتحدث التقارير عن أحياء سكنية قادرة على استيعاب ما يصل إلى مليون شخص. لكن المانحين الخليجيين يشككون في هذا السيناريو، والافتراض بأن الفلسطينيين سينتقلون طوعاً إلى أرض يسيطر عليها الجيش نفسه الذي قتل ذويهم ودمّر بيوتهم يناقض الواقعين السياسي والإنساني.
النتيجة الأرجح هي استمرار ما هو قائم فعلاً: غزّة مقسمة. جانب تحت السيطرة الإسرائيلية، مع إعادة إعمار محدودة وغامضة المصير، والجانب الآخر جيب محاصر ما زال تحت حكم حماس.
الخط الأصفر، الذي وُلد كأداة لوقف إطلاق النار، يتحول إلى حدود سياسية فعلية، وخلفه نسخة مصغّرة من غزّة ما قبل 7 أكتوبر، بحماس أضعف ومدنيين عالقين بين طرفين متحاربين وكارثة إنسانية مستمرة.
ما الذي قد يفكّ الجمود؟
لن يُكسر هذا الجمود إلا إذا تراجع أحد الطرفين. فإما أن تضغط تركيا وقطر على حماس لنزع سلاح حقيقي، أو تُقنع الولايات المتحدة والدول العربيةُ إسرائيلَ بالتعايش مجدداً مع حماس. لكن كلا الاحتمالين ضعيف.
منطق كل طرف يغذي الآخر، لينتج حالة جمود تام. ومع حرص اللاعبين الإقليميين والدوليين على تجنب العودة إلى الحرب، ستكون النتيجة سلسلة من الإجراءات الجزئية المصمَّمة لتبدو كأنها تقدم. لن تُرضي أحداً، ولن تغيّر شيئاً، وستبقي غزّة عالقة في واقعها الحالي: نصفها تحت السيطرة الإسرائيلية، والنصف الآخر تحت حكم حماس، فيما المدنيون محاصرون بين الطرفين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنويه: الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN).