في برنامجه على المنصات الرقمية لـ”الحرة”، تناول الكاتب والصحفي، إبراهيم عيسى، هذا الأسبوع قضية “ازدراء الأديان”، التي وصفها بـ”السيف المسلط على رقاب التفكير الحر”، كاشفا كيف تحولت هذه التهمة إلى أداة لتجريم النقد والاجتهاد، وإسكات أي نقاش حر أو محاولة للتجديد.
النص التالي هو أهم ما جاء في الحلقة، أعيد تحريره لتسهيل القراءة.
من أكثر المصطلحات بؤسا في حياتنا العربية عبارة “ازدراء الأديان”. هذه العبارة، التي تتكرر باستمرار، ليست في حقيقتها سوى سيف مرفوع على رقاب كل من يحاول أن يجتهد أو يجدد أو يختلف. إنها الأداة الجاهزة لوقف أي محاولة للحوار أو المناظرة أو النقاش البناء.
بؤس هذا المصطلح يكمن في وظيفته القمعية المطلقة؛ فهو لا يهدف إلى حماية الإيمان بقدر ما يهدف إلى تكريس الجمود.
إن “ازدراء الأديان” في جوهره ليس سوى تجريم للتفكير. وقد تجاوز في الواقع العربي كونه مجرد مادة قانونية ليصبح أداة من أدوات الإرهاب الفكري الشامل.
الازدراء لغويا يعني الاحتقار أو الإهانة. لكن هل يمكن لعاقل حقا أن يحتقر الأديان؟ في الحقيقة لا. حتى من يختار مناقشة الأديان من خارجها، كالملحد مثلا، يناقشها بالعقل والمنطق. قد تكون النقاشات حادة أو رافضة أو حتى ناقدة بشدة للأفكار والإيمان، لكنها تظل في إطار حرية الرأي والتعبير. والنقاش العقلاني، مهما بلغت حدته، يظل محترما لأنه يسعى للوصول إلى الحقيقة.
أما إذا ارتفع أحدهم على خصمه وتعامل معه باحتقار أو استهجان أو تعالٍ، فهنا ينهار النقاش وتضيع القضية. فالنقاش المحترم لا يقوم أبدا على الازدراء أو الانتقاص من الآخرين. إن الاحترام المتبادل، حتى في أشد النقاشات عنفا، شرط أساسي لأي نتيجة فكرية ذات قيمة. ومن ثم، فالنقد ليس هو الازدراء، بل الازدراء هو التعالي والاستخفاف بالآخر.
تاريخيا، عُرف الازدراء بأسماء أخرى: كان يُسمى قديما “الزندقة” أو “الهرطقة”. والتحول من هذه المصطلحات اللاهوتية التقليدية إلى مصطلح قانوني حديث هو مجرد تحول شكلي، أما المضمون فباقٍ كما هو. هذا التحول يعكس محاولة لإضفاء شرعية مدنية على قمع فكري قديم، لكنه ظل موجَّها دوما لإغلاق أي باب للاجتهاد أو النقاش الحر في شؤون الدين.
غموض النطاق وتحويل النقد إلى جريمة
هنا يطرح السؤال نفسه بجدية: ما معنى “ازدراء الأديان”؟ إن النطاق الذي تُلقى فيه هذه التهمة فضفاض وغامض إلى درجة أنها تكاد تشمل أي رأي مخالف أو نقد مشروع.
فهل يُعتبر ازدراءً إذا ناقش أحدهم حديثا نبويا، وقال إنه غير صحيح؟ أو إذا تناول قضية الحجاب ورأى أن الحجاب ليس فرضا؟ أو إذا انتقد الخطاب الديني السائد؟ أو حتى إذا اعترض على أفكار شيخ من المشايخ المشهورين؟
إن الاعتراض قد يطال أسماء كبرى من ابن تيمية والبخاري قديما إلى الشعراوي وغيره حديثا، لكن ما علاقة ذلك بالازدراء؟ لماذا لا يُتصور أن يكون مجرد نقاش أو جدل أو اختلاف طبيعي؟ أليس هذا هو جوهر الحياة الفكرية السليمة؟
إن تحويل نقد التفسير البشري إلى جريمة ازدراء يعني أن القانون لا يحمي النصوص المقدسة ذاتها، بل يحمي التفسيرات السلطوية التي كرّست الجمود عبر القرون. هكذا تنتقل القداسة من النص إلى أقوال الشيوخ، فيغدو الباب مسدودا أمام أي تطوير أو اجتهاد.
ولكي ندرك مدى ضيق الأفق الحالي، يكفي أن نتأمل موقف النبي نفسه من صحابته حين جاءوه يشكون وساوس وشكوكا في صدورهم. لم يزجرهم، بل أقرهم، ودعاهم إلى مواجهة الشك. هذا إقرار بحق التفكير والاجتهاد. أما اليوم، فيقال لمن يفكر أو يناقش: “إياك، وإلا اتُّهمت بازدراء الدين”. وهو تضييق يناقض جوهر الدعوة إلى التفكر والتعقل.
والأمر يزداد سوءا حين نجد أن الدفاع عن النبي وتنزيهه من روايات ملفقة أو عنيفة يُعتبر في ذاته تهمة. فكم من روايات نسبها مؤرخون وحُفاظ إلى السيرة لتبرير مذابح الخلفاء والحكام الذين بنوا دولهم على الجثث. لقد كان من الطبيعي أن يخترع هؤلاء روايات تزعم أن النبي أمر بالقتل والذبح، ليبرروا جرائمهم بأثر رجعي. لكن النبي الذي نؤمن به ونعرفه في القرآن الكريم لم يكن يوما نبي مذبحة، بل كان نبي الرحمة.
ومن المفارقات الغريبة أن باحثين يخرجون بأدلة وتواريخ دقيقة ليدحضوا رواية شائعة تزعم أن النبي تزوج طفلة، فيثبتون أن السيدة عائشة كانت شابة في السادسة عشرة أو الثامنة عشرة، فإذا بهم يُتهمون بأنهم ضد الدين! أليس ذلك دفاعا عن النبي؟ أليس تنزيها له؟ لماذا يصبح هذا الدفاع الصادق تهمة؟
إن الإصرار على التمسك برواية مسيئة إلى النبي، واتهام من ينفيها بأنه ضد الدين، يكشف أن الهدف ليس حماية الدين أو النبي، بل حماية الرواية الحرفية المشوهة. إنه عبث فكري يصل إلى حد الجنون.
التوظيف السياسي.. ازدراء الأديان كأداة للسلطة
المؤسف، بل والغريب، أن الدول العربية تشرّع هذه التهمة في قوانينها لا لشيء إلا لمغازلة المتطرفين والجماعات الإسلامية. وهكذا تستخدم التهمة أداة سياسية، بينما تزعم أنها تحارب الإرهاب. أي مفارقة هذه؟
فالدولة، حين ترفع هذا السيف، تريد أن تقول إنها الأكثر تدينا وحراسة للإيمان. لكنها في الحقيقة تستخدم القانون كعملة تشتري بها حياد الجماعات المتشددة، وتدفع ثمنها من حرية الفكر والاجتهاد.
والأدهى أن الاتهام يكاد يكون حكرا على مناقشة الإسلام من الداخل. فكل من يُحاكمون أو يُهاجمون بتهمة الازدراء هم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بينما يترك الباب مفتوحا لخطاب الكراهية ضد الأديان الأخرى بلا عقاب.
فعلى المنابر تسمع من يصف اليهود بأنهم “أبناء القردة والخنازير”، أليس هذا ازدراءً؟ وتسمع من يطعن في المسيحية، أليس هذا ازدراءً؟ لماذا لا يُحاسَب هؤلاء؟
الازدواجية هنا صارخة: القانون لا يحمي كل الأديان، بل يترك باب الازدراء مفتوحًا ضد اليهودية والمسيحية، بينما يجرّم النقد الداخلي للإسلام. إنه قانون لا يحمي التعددية، بل يرسخ عسكرة الهوية الدينية السائدة.
وبهذه الطريقة، تتحول التهمة إلى سلاح بيد الحاكم. فبدلا من أن يُسجن معارض لأنه انتقد فشل الحكومة، يُسجن لأنه “طعن في حديث” أو “انتقد البخاري”. وهكذا يغطي القمع السياسي برداء ديني، فيبدو الحاكم وكأنه يدافع عن المقدسات، بينما هو في الحقيقة يقضي على خصومه.
تاريخ طويل من التكفير
تهمة ازدراء الأديان ليست جديدة، بل هي امتداد طويل لتاريخ من التكفير والملاحقة. لقد طالت هذه التهمة رموزا كبرى من أعلام الفكر والدين: الإمام محمد عبده، الشيخ علي عبد الرازق، بل حتى ابن سينا والحلاج وجابر بن حيان قديما. ابن تيمية نفسه وصف ابن سينا بالكفر، ووصم آخرين غيره بالزندقة. حتى أبو حنيفة، أحد كبار الأئمة، لم يسلم.
هذه القائمة الطويلة تؤكد أن الهدف كان دائما واحدا: محاربة العقل والاجتهاد عبر العصور. حتى رجال الدين الذين تخصصوا في علوم الشريعة لم يسلموا، فما بالك بالمفكرين والكتاب والصحفيين؟
ومن هنا، يظل السؤال المؤلم: متى تختفي هذه التهمة من قوانيننا؟ الجواب، للأسف، متشائم. فهذه التهمة لن تختفي، لأنها سلاح شديد الفعالية في يد السلطة السياسية والدينية. كيف يتخلى الحاكم، أو رجل الدين، عن أداة تمكنه من قتل خصمه، أو سجنه، أو تشويه سمعته، أو تهديده؟
إنه سلاح متعدد الوظائف: قد يُستخدم للقتل، أو للسجن، أو للتشهير، أو للترهيب. يكفي التلويح به لإسكات العقل وتكميم الأفواه. لذلك سيبقى، على الأرجح، جزءا ثابتا من أدوات الردع والقمع.
ولذلك تظل تهمة “ازدراء الأديان” واحدة من أكثر التعبيرات بؤسا وخطورة على حرية الفكر في حياتنا المعاصرة.