بين الدولة والميليشيات.. كيف يغير قرار أميركي موازين القوة في العراق؟

Loading

منذ مقتل حسن نصر الله في بيروت وسقوط نظام الأسد في سوريا، تتحرك واشنطن وحلفاؤها لإعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط. والآن جاء دور العراق: تصنيف أميركي جديد للفصائل الشيعية المتحالفة مع إيران.

فمنذ هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، تلقى “محور المقاومة” ضربات متتالية. دمرت إسرائيل القدرات العسكرية لحركة “حماس” في غزة، واغتالت قادة بارزين في “حزب الله” في لبنان، بمن فيهم أمين عام الحزب حسن نصرالله، فيما أزاح أتاح سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي صعود نظام جديد يسعى إلى عقد اتفاق سلام مع إسرائيل.

لم يبق في الميدان سوى الحوثيين في اليمن، إلى جانب ملف الميليشيات العراقية الذي  ظل، لفترة، بعيدا عن الأضواء، حتى عادت واشنطن قبل أيام لتقليب صفحاته.

وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية الأسبوع الماضي إدراج أربع جماعات عراقية مسلحة مرتبطة بإيران على قائمة “المنظمات الإرهابية الأجنبية”. وشمل القرار “حركة النجباء”، و”كتائب سيد الشهداء”، و”حركة أنصار الله الأوفياء”، و”كتائب الإمام علي”.

يقول الخبير الأميركي في شؤون الشرق الأوسط المعاصر، روبرت رابيل، إن “الولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا وبعض الدول العربية، خاصة دول الخليج، قرروا أن الفاعلين غير الحكوميين لا ينبغي أن يكون لهم دور في الشرق الأوسط. لا يمكنهم أن يملوا سياسات المنطقة، ويجب أن تبقى الدول هي المسؤولة”.

ويضيف في تصريح لـ”الحرة” أن “هذه الاستراتيجية اتُخذ قرارها منذ فترة، وهم يتحركون الآن تدريجيا لتنفيذها”.

وقال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو،  إن قرار وزارته يرتبط بـ”الهجمات التي شنتها الميليشيات المتحالفة مع إيران على السفارة الأميركية في بغداد والقواعد التي تستضيف القوات الأميركية وقوات التحالف”. وأضاف أن تلك الجماعات “غالبا ما تلجأ إلى استخدام أسماء وهمية أو واجهات تنظيمية للتعتيم على دورها الحقيقي”.

ويعكس هذا التصنيف الأميركي تحوّلا في الحسابات: فلم تعد القوة العسكرية وحدها كافية للحد من نفوذ الفصائل العراقية المرتبطة بطهران، بل بات المزج بين الردع العسكري والضغط المالي والقانوني والسياسي هو الأداة الرئيسية لتقليص تأثير الميليشيات على المدى الطويل، وزيادة الضغط على إيران.

وعليه، لا يبدو القرار مجرد إجراء عقابي، بل جزءا من توجه استراتيجي أوسع لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والميليشيات، ووضع حد لسطوة الفاعلين غير الحكوميين الذين أمسكوا بمفاصل الأمن والسياسة في العراق والمنطقة لأكثر من عقدين.

يقول الخبير الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، روبرت رابيل، إن “هذه الجماعات جزء من محور المقاومة في العراق، وهي لا تعادي الولايات المتحدة فحسب، بل تعادي العراق نفسه. ومن الواضح أن التصنيف يهدف أيضا إلى تكثيف الضغط على إيران”.

ماذا نعرف عن هذه الجماعات؟

حركة النجباء، التي أسسها أكرم الكعبي عام 2013، تُعد من أبرز الفصائل المسلحة العراقية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. شاركت في القتال إلى جانب نظام الأسد قبل سقوطه في ديسمبر الماضي، كما لعبت دورا محوريا في تأمين خطوط لوجستية واسعة لنقل السلاح والمقاتلين إلى سوريا.

أما كتائب سيد الشهداء، بقيادة أبو آلاء الولائي، فقد انخرطت هي الأخرى في المعارك السورية، وبرزت لاحقا من خلال هجمات ضد القوات الأميركية داخل العراق، ما جعلها جزءا أساسيا في شبكة “محور المقاومة” الإقليمية.

ورغم صغر حجمها، لعبت حركة أنصار الله الأوفياء دورا ملحوظا في فتح ممرات لوجستية لتهريب الأسلحة الإيرانية داخل العراق، ما يوضح أن التأثير الميداني لا يُقاس دائما بحجم الفصيل.

بينما أظهرت كتائب الإمام علي، بقيادة شبل الزيدي، قدرة واضحة على استهداف مصالح غربية في بغداد. وتتميز بارتباط مباشر مع الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” اللبناني، ما يجعلها لاعبا محوريا في شبكة الفصائل العراقية الموالية لإيران.

جميع هذه الجماعات ترتبط أيضا بالحشد الشعبي، وهو مظلة تضم عشرات الفصائل شبه العسكرية جرى دمجها رسميا ضمن قوات الأمن العراقية. لكن بعض تلك الفصائل ظل مرتبطا عضويا بإيران، مع احتفاظه بقدرات عسكرية وسياسية موازية.

ولكثير من هذه الجماعات أذرع سياسية تشارك في الانتخابات ولها ممثلون في البرلمان، كما تدير وزارات حكومية ضمن تحالف “الإطار التنسيقي” الذي يقود السلطة في العراق.

“إجراءات استباقية”

يرى رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، إحسان الشمري، أن التصنيف الأميركي لهذه الجماعات يحمل “رسالة إلى بقية القوى السياسية مفادها أن واشنطن غير راغبة في وجود هذه الجماعات في المشهد السياسي القادم في العراق”.

ويضيف الشمري لـ”الحرة” قوله: “هي إجراءات استباقية قبيل الانتخابات العامة في العراق، بأن الولايات المتحدة لن تتعاطى مع أي حكومة قادمة تشكلها هذه الفصائل”.

ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقررة في نوفمبر المقبل، يطرح القرار الأميركي تحديا حقيقيا أمام بغداد، خصوصا في ما يتعلق بإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والحشد الشعبي. فالحكومة تجد نفسها مضطرة إلى موازنة دقيقة بين الاستجابة للضغوط الأميركية والحفاظ على الاستقرار الداخلي، وسط تحذيرات من أن استفزاز الفصائل قد يقود إلى مواجهات مسلحة وتوتر سياسي واسع.

قبل أسابيع فقط، كثفت واشنطن ضغوطها على هذه الفصائل، وتمكنت من عرقلة تشريع قانون مثير للجدل ناقشه البرلمان في يوليو الماضي، كان يهدف إلى منح الحشد الشعبي مزيدا من الشرعية.

حينها، اعتبر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن أي خطوة من هذا النوع “ستكرّس النفوذ الإيراني والجماعات الإرهابية المسلحة، بما يقوّض سيادة العراق”.

ويبدو أن الائتلاف الحاكم قد رضخ للضغط الأميركي، فرحل مقترح القانون، بحسب تقارير، إلى الدورة البرلمانية المقبلة التي ستفرزها الانتخابات.

ماذا يعني التصنيف الأميركي الجديد؟

كانت الفصائل الأربعة مصنّفة بالفعل منذ عام 2023 على أنها ضمن “الإرهابيين العالميين المصنّفين بشكل خاص” (SDGT). لكن إدراجها الآن على قائمة “المنظمات الإرهابية الأجنبية” (FTO) يمنح وزارة الخارجية، والسلطات الأميركية عموما، أدوات أوسع لاتخاذ إجراءات جنائية ضدها، تشمل منع عناصرها وقادتها من السفر إلى الولايات المتحدة وتجميد أصولهم المالية.

ويشرح الخبير الأميركي روبرت رابيل أن “الأدوات التي يوفرها هذا التصنيف أوسع وأكثر فعالية لفرض العقوبات ومعاقبة هذه المنظمات الإرهابية”. ويضيف: “الآن ستتم مراقبتهم عن كثب. وإذا حاول أحد دعمهم، فسيلاحق قانونيا في الولايات المتحدة، وربما يواجه تهما جنائية. أي منظمة أو بنك أو مؤسسة تعمل معهم ستجد نفسها أمام العدالة الأميركية”.

من هذا المنطلق، لا يُنظر إلى القرار على أنه مجرد إجراء عقابي، بل كخطوة متكاملة لإعادة ضبط موازين القوة في العراق والمنطقة، وترسيخ “محور الدولة في المركز” كخيار استراتيجي في السياسات الأمنية والإقليمية. كما يضع الفاعلين غير الحكوميين تحت رقابة صارمة، ليؤكد أن مرحلة الهيمنة شبه المطلقة للميليشيات على القرار السياسي والأمني بدأت بالتراجع، وأن الدول تعود لتكون اللاعب الأساسي في رسم مستقبل المنطقة.

“إذا أرادت هذه الفصائل أن يكون لها أحزاب سياسية، فليكن”، يقول رابيل، “لكن دون امتلاك السلاح أو بناء دولة داخل الدولة”.